يشكّل الدكتور محمد محسن الظاهري نموذجاً استثنائياً للشخصية اليمنية التي جمعت بصلابة بين النزاهة الأكاديمية والمبادرة السياسية الشجاعة. لم يكن الظاهري، الذي رحل عن دنيانا عن 63 عاما، مجرد محاضر في العلوم السياسية، بل كان مدرسة فكرية ونضالية متكاملة، جسّدت مبدأ أن العلم والفكر لا يكتملان إلا بالالتزام الأخلاقي والموقف المستقل. على مدار أكثر من ثلاثة عقود، أصبح صوتاً نقدياً صريحاً ومعارِضاً بناءً، محافظاً على استقلالية قراره وكرامته، وهو ما جعل من سيرته انعكاساً أصيلاً للعمق الفكري والجرأة في مواجهة التحديات.
الأكاديمية كمنبر أخلاقي وعملي
تميز الظاهري بقدرة نادرة على الجمع بين العقل النقدي والفعل الأخلاقي، انطلاقا من إيمانه بأن الاستقلالية والالتزام بالقيم هما الركيزتان الأساسيتان للعلم والسياسة معاً. تجاوز دوره حدود قاعة المحاضرات ليصبح مرشداً فكرياً ومرجعاً للطلاب والزملاء، يغرس فيهم وعي المسؤولية الاجتماعية والسياسية ويحفزهم على تبني التفكير المستقل. ومن خلال تطوير المناهج الجامعية وتحفيز الحوار البنّاء، عمل الظاهري على تأكيد أن جوهر التعليم ليس مجرد نقل المعرفة، بل صناعة القادة والمواطنين القادرين على مواجهة الواقع بمسؤولية وثقة.
وفي هذا السياق، يصفه الأكاديمي بجامعة صنعاء الدكتور علي العسلي في مرثيته قائلاً:" لم يكن مجرد باحث يعيش في برج عاجي، بل كان يكتب بضمير المناضل ويُدرّس بعقل المصلح، مخصصًا حياته للتعامل مع قضايا الوطن الكبرى: الدولة والمواطنة، القبيلة والمجتمع المدني، الديمقراطية والاستبداد، الثورة والتغيير".
كما يضيف العسلي:"كان يرى في الفكر وسيلةً للتحرر، وفي العلم طريقًا للخلاص الجمعي، ولذلك ظلّ على الدوام صدىً لصوت الشعب، ونموذجًا للنخب الملتزمة، وصوتًا للحقيقة في زمنٍ ضجّ بالأصوات الزائفة".
شجاعة الموقف وثمن التضحية
انتقل الظاهري من النظرية إلى الممارسة في ثورة فبراير 2011، حيث أظهر شجاعة نادرة حين أصيب برصاصة قناص أثناء مسيرة سلمية في 18 سبتمبر. ورغم قسوة الإصابة التي استدعت العلاج في مستشفيات دولية، عاد فور تعافيه إلى ساحات النضال، مواصلاً دوره في توجيه الشباب وحل النزاعات بينهم. كانت قيادته في تلك الفترة مثالاً حيّاً على المزج بين الحزم والاعتدال، بين قوة الموقف ووعي المسؤولية الوطنية، مؤسساً لنهج قيادة قائمة على الحكمة والشجاعة معاً.
لم يقتصر دور الظاهري على وضع الأفكار في كتب أو محاضرات، بل كان يعيشها ويجعلها منهجاً عملياً في كل لحظة من حياته اليومية. يظهر في الصفوف الدراسية كما يظهر في الشوارع، في الندوات السياسية والفكرية والمقالات الصحفية، وفي تجمعات القرى والجلسات العامة، حيث يشارك الناس همومهم ويقف مع معاناتهم. هذه الممارسة اليومية جعلته شخصية بارزة في ثورة 11 فبراير، إذ لم يكن مجرد مراقب أو محلل، بل مشاركاً فاعلاً في قلب الأحداث، خاض نقاشات وجولات مستمرة في الصحافة والمجتمع المدني، وساهم في صياغة وعي سياسي شعبي قائم على الشجاعة والصدق.
كان حضور الظاهري يتميز بالوضوح والرصانة، ففكره القوي وسلوكه الصادق كانا مرآة لمبادئه، وهو ما لاحظه الناس وعرفوه به واصفين إياه بأنه رجل لا يخاف قول الحق، ولا يحابي أحداً، يواجه التحديات بشجاعة، ويجعل الاستقلالية والضمير النزيه معياراً لكل موقف يتخذه، سواء في قاعة الدرس أو في ساحات المظاهرات.
ومع انتخابه ممثلاً عن "قائمة التغيير" في هيئة التدريس بجامعة صنعاء عام 2014، أكّد الظاهري التزامه بخدمة التعليم والبحث العلمي، مواصلاً الدفاع عن الحق في التعليم والتعبير الحر حتى في ظل الظروف الأمنية والسياسية الصعبة بعد انقلاب الحوثيين. هنا يظهر كيف أن موقفه لم يكن مجرد نشاط سياسي، بل التزام أخلاقي مستمر يمثل واجب الأكاديمي والمثقف تجاه وطنه ومجتمعه.
ثبات أمام التحديات والانتهاكات
لم تكن مسيرة الظاهري خالية من التضحيات، فقد تعرّض على يد جماعة الحوثي للاختطاف في أغسطس 2015 مع عدد من الأكاديميين، ما دفع النقابة للإضراب احتجاجاً على هذه الانتهاكات. ولم تلبث الأمور أن تكررت حين اختطف مجدداً في ديسمبر من نفس العام، وأُفرج عنه في اليوم ذاته. ولم تتوقف الضغوط عند ذلك، بل شملت إجراءات اقتصادية وسياسية قاسية، أبرزها قطع راتبه منذ عام 2016، بالإضافة إلى الاعتداءات المتكررة أثناء محاولاته الدفاع عن حقوق زملائه، واستدعاءات متكررة من قبل النيابة على خلفية نشاطاته النقابية، في محاولة لإسكات صوته المستقل وموقفه الثابت.
ويعلّق العسلي على هذه المواقف قائلاً: "حين اعتُقل الظاهري من قبل الحوثيين لتضامنه مع زملائه المختطفين، ووقوفه ضد تعيين رئيس جامعة بالقوة، أبدى شجاعة استثنائية حين حاول أحدهم تهديده بالسلاح، لكنه نجا بأعجوبة، ليؤكد بذلك التزامه الثابت بالمبادئ".
ورغم كل هذه الضغوط، ظل الظاهري شامخاً وصامداً، ملتزماً بمبادئه في الاستقلالية الأكاديمية والتعبير الحر، مؤمناً بأن الموقف الأخلاقي يتطلب ثباتاً لا يلين أمام أي تهديد أو انتهاك. وقد لاحظ زملاؤه أن هذا الصمود كان انعكاسا لعمق قناعته بأن المعرفة لا معنى لها بدون التزام بالقيم والمسؤولية الوطنية.
البصيرة السياسية والتحليل العميق
في تحليله للأزمة اليمنية، ركّز الظاهري على الدور الذي لعبته جماعة الحوثي في تقويض التعددية السياسية، مبرزاً أن شعاراتها كانت جوفاء تتناقض مع أهدافها الحقيقية، التي كانت تسعى للسيطرة المطلقة على الدولة. وأوضح أن الأجندات الخارجية حولت الجماعة إلى أداة تمنع اليمن من تحقيق الاستقرار أو بناء دولة قوية ذات سيادة كاملة.
على هذا الأساس، أكد الظاهري أن السياسة الحقيقية تتجاوز المكاسب الحزبية الضيقة، وأن الانتماء للوطن يتطلب صدقاً وموقفاً شجاعاً، وهو ما رسّخه في كل نشاطاته ومواقفه.
في هذا الإطار، يستحضر العسلي حلم الظاهري باليمن الديمقراطي الحديث، قائلاً :"كان مناضلًا حقيقيًا من أجل وطنٍ تسوده العدالة، ويُكرَّم فيه الإنسان بمعزلٍ عن انتمائه أو موقعه.وظلّ مؤمنًا بيمنٍ ديمقراطي حديث، تتحقق فيه المواطنة المتساوية والحرية المسؤولة، وكان حلمه ذاك رفيق عمره حتى آخر لحظةٍ من حياته".
إرث النزاهة والالتزام
كان النائب البرلماني علي عشال من الذين شهدوا حياة الظاهري عن قرب، واصفاً إياه بأنه "حالة فكرية ونضالية نادرة، تماهى فيها القول بالفعل، واتحد الفكر بالموقف، والعلم بالكرامة، والسياسة بالشرف". ولفت عشال في مقال له إلى أن الظاهري علّم طلابه وزملاءه أن الفكر بلا التزام أخلاقي لا معنى له، وأن المثقف الذي لا يقف إلى جانب الحق لا يستحق أن يُسجّل له التاريخ موقفاً.
وأضاف أن الظاهري كان يعيش للمبادئ لا للمصالح، وللقيم لا للأضواء، صعّر خده لكل غوايات السياسة ومكائدها، مؤمناً أن الاستقلال في الرأي شرف، وأن الانحياز للضمير أسمى من الانتماء لأي سلطة أو تيار. وقد أكّد عشال أن الظاهري لم يكن تابعاً لأحد، ولم يُسمح لأي تأثير خارجي أن يغير مواقفه، فكل قوله وفعله كان نابعاً من قناعة صلبة ومتجذرة في التجربة والمعرفة.
كما يوضح العسلي موقف الظاهري أثناء رئاسته لنقابة أعضاء هيئة التدريس بجامعة صنعاء:"كان يوقع للمكافآت ويستثني نفسه رغم حاجته المادية، ويقول بخجل: «دعوا المكافآت للزملاء، أنا بخير. ذلك هو الظاهري: رجل المبدأ والنزاهة، لا تغريه المناصب، ولا تستهويه الامتيازات.كان النقابيّ الصلب الذي جعل من النقابة بيتًا للجامعة، لا بوابةً للمنفعة أو المكاسب".
الخاتمة: رمز الكرامة الفكرية
ترك الدكتور محمد الظاهري إرثاً لا يقدّر بثمن في مجالات التعليم والسياسة والمبادئ؛ فقد جسّد نموذجاً فذاً للشخصية الواعية القادرة على مواجهة الاستبداد بثبات أخلاقي وعمق فكري، وأصبح صوتاً صادقاً يمثل ضمير الأمة، ورمزاً للحرية والعدالة والمبادئ السامية. عاش الظاهري حراً، صادقاً، شامخاً، حاملاً راية العلم والسياسة النزيهة، ومخلّداً أثراً لا يمحوه الزمن في ذاكرة الوطن.