منذ جريمة اختطافه في الرابع من أبريل/ نيسان 2015، يتعرض السياسي والمناضل الوطني محمد قحطان لمعاملة غير إنسانية من قبل مليشيات الحوثي التي تواصل إخفاءه قسراً، وترفض حتى الإفصاح عن أي تفاصيل تتعلق بصحته أو حياته، في انتهاك صارخ لكل القوانين والأعراف.
ويُكمل السياسي قحطان عقد من الزمان وهو مخفي قسراً في سجون ميلشيات الحوثي، رغم فداحة الجريمة الإنسانية التي تمارس ضده كسياسي مدني، ارتبط اسمه بالنضال الوطني وفي وجدان الجماهير التي تطالب بالحرية والكرامة والعدالة، كانت هي ذاتها دوافع جريمة الإخفاء القسري.
يكشف هذا السلوك الحوثي حجم الخوف الذي يمثله القيادي في حزب الإصلاح محمد قحطان لهم، ليس فقط كقائد سياسي، بل كرمز وطني له تأثيره الواسع في المشهد السياسي اليمني، منذ مطلع الألفية.
نحاول فهم هذا السلوك من خلال أربعة جوانب رئيسية هي: رمزية قحطان كمنظّر لدولة المواطنة، وقدرته الاستثنائية على التأثير بالحوار، ورفضه القاطع لأي مساومات سياسية تهدد أسس الدولة.
رمز لدولة المواطنة المتساوية
جسّد محمد قحطان في مسيرته السياسية نموذجا للقيادة التي تؤمن بالدولة كمؤسسة جامعة لكل اليمنيين، وليس مجرد أداة في يد من يحكمها، وظل متمسكا بهذا النهج حتى لحظة اختطافه، وبرز ذلك وصفه أن سيطرة الحوثيين بـ "انتفاشه".
عند استيلاء الحوثيين على العاصمة صنعاء بانقلاب 21 سبتمبر 2014، كان قحطان في مقدمة المدافعين عن الدولة، انطلاقا من حقيقة أن هذا الانقلاب يمثل تهديدا للديمقراطية، وكان خطابه السياسي يشكّل تحديا لمشروع الحوثيين القائم على نظرية التمييز السلالي "الحق الإلهي".
كان يدرك بشكل دقيق وبشكل مبكر مشروع الحوثيين الإمامي المناقض لدولة المواطنة، ففي رده على سؤال ماذا يريد الحوثيين من حروبهم؟، قال -في مقابلة تلفزيونية يونيو 2014- أحال المذيع إلى كتاب "الحلال والحرام" للمؤسس الأول للزيدية، الهادي الرسي. فيشير قحطان "ان عبد الملك الحوثي يطبق ما ورد في الكتاب في القتل وتشريد اليمنيين وفق نظرية الإمامة التي عملوا عليها تاريخيا".
لم يكن موقف قحطان تجاه الحوثيين مدفوعا بمصالح شخصية أو حسابات سياسية ضيقة، بل كان نابعا من قناعته الراسخة بالقيم الوطنية وإيمانه العميق بأنه لا يجب القبول باختطاف الدولة لصالح فئة معينة، فما بالك إذا تم ذلك بالقوة بدلا من الإرادة الشعبية التي تعبّر عنها صناديق الاقتراع.
ويرى السياسي محمد قحطان أن الحوثيين "أسرى الماضي ولا يمكن ان يصلوا إلى طريق" في ذات المقابلة، في إشارة إلى ما يمثله مشروع الإمامة من عبئ تأريخي على الجماعة التي حاولت كافة القوى السياسية إشراكها عقب ثورة فبراير ضمن المشروع الوطني، لكنها تحولت إلى آلة جريمة ضد اليمنيين وكان قحطان أول ضحاياها.
رجل الحوار والطرح العقلاني
عُرف قحطان بأسلوبه السياسي القائم على الحوار والتفاهم، حتى في مواجهة خصومه، دون أن يتناقض ذلك مع تصريحاته الشجاعة التي كانت تفرضها الأحداث. تجلّى نهجه المنفتح في علاقاته الواسعة بين الأوساط السياسية والإعلامية، ما أكسبه لقب "صديق الصحفيين"، تقديرا لدعمه المستمر لهم وانفتاحه على جميع الآراء.
كان قحطان أحد أبرز مهندسي توحيد المعارضة في إطار "اللقاء المشترك"، إلى جانب القيادي الاشتراكي الراحل جار الله عمر وآخرين، في تجربة سياسية غير مسبوقة أظهرت قدرة المعارضة على التنسيق رغم الاختلافات الإيديولوجية والسياسية.
لكن هذا النهج الحواري، جعله هدفا للجماعات المتطرفة والمليشيات التي تؤمن بالعنف والإقصاء، مثل الحوثيين، الذين أدركوا أنه من القلائل القادرين على تفكيك خطابهم المتشدد ومواجهتهم بمنطق سياسي قوي.
ورغم رفضه لانقلابهم على الدولة، لم يتخلَ قحطان عن الحوار حتى بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء، فشارك في المفاوضات التي رعاها المبعوث الأممي جمال بنعمر، محاولا دفع الحوثيين إلى مسار سياسي، رغم إدراكه أنهم يتعاملون مع الحوار كتكتيك مرحلي.
شكّل خطابه الهادئ ومنطقه الرصين عقبة كبيرة أمامهم، حيث جعل من الصعب عليهم تبرير مشروعهم السياسي أمام جمهور واسع، ولهذا، كانوا يدركون أن قحطان لم يكن شخصا يمكن إسكات صوته بسهولة، بل كان قادرا على توحيد التيارات السياسية المناهضة لهم، ولذلك اختطفوه وأخفوه قسريا.
رفض المساومات السياسية على حساب الدولة
اشتهر قحطان بثبات مواقفه ورفضه القاطع لأي مساومات تمسّ أسس الدولة، في وقت باتت فيه الحياة السياسية تعج بالصفقات والتسويات التي غالبا ما تأتي على حساب المصلحة العامة، ما جعله هدفا لكل من يرى في الدولة عقبة أمام مصالحه.
ومن هذا المنطلق، كان قحطان يشكّل تحديا رئيسيا للحوثيين، إذ قام مشروعهم على تقوّيض مؤسسات الدولة واستبدالها بهياكل موازية ونهج قائم على القوة والإقصاء، لذا، لم يقبل قحطان بهذا الواقع ورفض أي محاولات لإضفاء شرعية عليه.
لكن خوف الحوثيين من قحطان لم يكن نابعا فقط من رفضه لانقلابهم المسلح، أو لموقفه الصارم في الدفاع عن شرعية الدولة، بل يعود إلى دوره المحوري في ترسيخ مفهوم دولة المواطنة المتساوية في الوعي السياسي اليمني، ومن هنا، لم يكن اختطافه وإخفاؤه القسري مجرد عمل انتقامي من دوره الوطني، بل إقرارا ضمنيا بقوة أفكاره وتأثيرها.
ورغم مرور سنوات على تغييب قحطان، لا يزال يمثل رمزا للصمود في وجه المشاريع التي تستهدف الدولة والمواطنة المتساوية، ومصدر إلهام للأجيال القادمة في مسيرتها نحو يمن جمهوري حر.