من منكم يعرف الشاعر عبد الله القاضي الحمادي ؟
شخصيا لم أسمع عنه إلا بعد ما مات
هذا ليس مهماً، فليس من الضروري أن أسمع عن كل الناس لكن القاضي ليس شخصا عابرا في طابور العابرين بل هو فكر، وفلسفة ،وروح زاهد، وعارف لحقيقة الحياة والموت وما بينهما من زمان ومكان، وأشياء و أشخاص وأفكار وأفراح وأحزان.
ومقابلة واحدة للرجل تكشف شخصيته الاستثنائية بكثافة العبارة وعمق الفكرة.
ربما لم يكن ما ذهب إليه من عزلة أمراً واقعيا لكن فلسفته راقية وتلاصق جوهر الحقيقة، وتستحق الدراسة ربما تكون العزلة ردة فعل على سلبية المجتمع واتساع مساحة الجهل، والضجيج الفارغ المسيطر على الحياة.
هذا شاعر كان له باع في الشعر والثقافة لكنه فجأة حسم أمره ليهجر الشعر والناس ويتخذ له مسلكا بين القبور ومن الموت صديقا.
كما قال هو في مقابلته: ( ليست لي صلة بأي شيء، لا بالشعر ولا بغيره، صلتي الوحيدة بالموت ،إنه الصديق الوحيد الذي أحاوره دائماً، الشعر كان الوجه الآخر للموت، وقد تقابلنا الآن وجهاً لوجه. لقد توافقت مع الموت أكثر مما أتوافق مع الشعر).
الشعر عند القاضي نوع من عناوين البحث عن الموت وفك طلاسمه هو يعانق الموت كبوابة لليقين وللحياة الحقيقية بعيدا عن الوهم.
يبدو في حياة القاضي وفلسفته ألا فرق بين الوهم والحقيقة في هذه الحياة ولديه حق فالوهم هو حجر الزاوية في هذه الحياة، فالحياة قائمة على الأوهام وهي مجموعة صور متسارعة في محصلتها النهائية وهم شارد ونقطة في ذاكرة.
ذاكرة هي ذاتها تتفتت إلى سراب وعدم،حياة كانت هنا أو ربما كانت ؟؟؟!!
فذاكرة الكون كلها مثقوبة
(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ)
لديه قضايا فلسفية جوهرية تحدث عنها الفلاسفة والحكماء والأديان السماوية وعاشها هو كتجربة،
مشى بقية حياته كدرويش أخذ كتابه بين يديه كعنوان للمعرفة التي دهسها جهل هذه المرحلة الإنسانية التعيسة التي فقدت التأمل كنافذة للمعرفة فصار الناس بدون تأمل أو معرفة أو سؤال أقرب إلى الأنعام والبهائم غايتها الاعتلاف والإفراغ اليومي.
عاش مشردا في الشوارع والمقابر محتفظا برصانة الفيلسوف الذي لا يهمه ماذا يقول الناس فهو ينظر إليهم كضحايا وصور متحركة في لوحة الوهم يفهم هذا بجذور إيمانية مردداً شواهد قرآنية عن حقيقة الدنيا (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ )
أمضى حياته مشرداً وعازباً ،يحدق بالموت ويسامره ،وكأنه يردد عبارة المعري الذى أوصى أن تكتب على قبره:
هذا ما جناه أبي عليّ
وما جنيت على أحد.
عاش القاضي بطريقة مختلفة كأنه لم يجد في هذه الفوضى سبيل إلا الاعتزال والبحث عن اليقين تستوي عنده الأشياء والمشاعر فالحزن والفرح وجهان لعملة واحدة، الكثرة والقلة أرقام تتقافز في لوحة الحياة لا فرق، ولسان حاله يطبطب على المشردين وسكنة الأرصفة والشوارع ألا تحزنوا لا شيء يستحق الحزن!
ويشير لسكان القصور العالية ألا تفرحوا فلا شيء يستحق الفرح!
في مقابلة أجراها الصحفي علي سالم المعبقي
لصحيفة الحياة اللندنية لخصت شخصية الرجل و فلسفته العجيبة
أدهشتني الإجابات كما هي أسئلة الصحفي التي لخصت حياة إنسان استثنائي حضر في فترة فراغ معرفي وضوضاء مزعجة ودخان كثيف يسد الرؤية ففر مجبرا إلى العزلة كنوع من انواع الإحتجاج، وكأنه يقول لم يعد من حولي شيء كل من حولي فراغ لا يستحق المحاكاة فتوجه إلى المقابر الحقيقة الأبرز لنجده يؤكد هذه القناعة في إحدى إجاباته
-( نعم دائماً ما يحضرني الموت ولا يفارقني. وقد أعلنت موتي قبل سنوات طويلة، عشت عالم القبور والمقابر وتعفرت بهوائه، خضت تجربته وتمليت صمته).
كان عبد الله القاضي الذي يبدو أنه غاص في القراءة وعالم الأفكار والبحث ليصل إلى حقيقة أن هذه الحياة ليست الحياة التي تناسب روحه فهو يؤمن بأن الحياة الحقيقية آتية رافعا حقيقة
(الناس نيام فإذا ما ماتوا انتبهوا)
وكأنه أراد أن يستيقظ مبكرا على طريقته.
التواضع عنده وجود والغرور عدم وبحسب قوله:
(يقع الإنسان في مأزق عندما يصدق ما يقال عنه) إجابة عميقة ينفي فيها ما يتحدث عنه الصحفي واصفا إياه بالشاعر الكبير و يؤكد( أنا أبسط ما تتصور هذا ليس تواضعا ولا غرورا)
هنا يجمع التواضع بالغرور وكأنه على مسار واحد. فالغرور قد يأتي على شكل تواضع وهو أي التواضع والغرور قضية قلبية معقدة وليست شكلا صرفا
كان السؤال الأخير في المقابلة المبدعة:
من الصحفي المنبهر بالإجابات
س :ألا تبحث عن شهرة ما ولكن بصورة معكوسة؟
ج : (أخاف أن أكون إنساناً مشهوراً، ولا أحب الشهرة. تستهويني الحياة العادية
رحم الله صاحب قبر لا يُعرف)
رحم الله عبد الله القاضي الحمادي
وعلى ذكر الحمادي حضر إلى ذاكرتي عبد الحكيم شرف الحمادي احد زملاء عبده محمد المخلافي الذي كان قائدا يحتشد حوله الشباب يصول ويجول وفجأة سلك طريق الاعتزال ومات أعزباً هو الآخر ولديه أفكاراً وتصورات لم يستوعبها أحد.
أسهل شيء أن يتعامل الناس مع هؤلاء بتصنيفهم بالجنون وهم على حق لأنهم أساسا لا يحتملون هذا النوع من الفكر الذي يثقب في مواقع صلبة ويسأل في مواضيع لا تحتمله العقول الكسولة التي تستهوي السطحية في الحياة على طريقة كل واشرب ومش حالك
بعيدا عن السؤال والفكر والتأمل وبعيدا عن العبرة والاعتبار.