ثلاثة أيام بلياليها قضاها جارنا مسعود تحت وطأة المرض في منزله.. ومثلها في المشفى الذي يبعد عن قريتنا طريقا مضنية وثلاث ساعات.. بعدها فارق مسعود الحياة ذاهلا مذعورا لأن الموت فاجأه بطريقة غير متوقعة.
يقول تقريره الطبي أنه مات بتسمم غذائي أتى على جميع سوائل جسمه بعد تناوله لمادة شديدة السمية. أورثته إسهالا وإغماء حادين نجا منهما بالموت.
لم تكن المادة السمية مدسوسة في ربطة قات فليس بمقدور مسعود المادي حتى الاقتراب من أسواقه العامرة ناهيك عن دخولها.. ولم يأكل تفاحا ولا برتقالا ولا اقتنى عنبا أو بطيخا.. فتلك أمنيات مؤجلة تتقاذفها الأيام والليالي إلى مستقبل مجهول.. فما الذي أضر به إذن؟
بوجع ذابح تجيب زوجته الثكلى مفصحة عن سبب مرض زوجها هامسة بصوت مبحوح مرتعد: عاد إلينا من السوق القريب عصر الاثنين الماضي بنصف كيلو طماطم. ولأننا كنا قد تناولنا وجبة الغداء؛ فقد أعددنا له منفردا لقمة خفيفة إدامها حبة طماطم مسحوقة. كانت رائحة (الكربون) تنبعث منها قوية، فغسلناها مرارا دون فائدة. وما أن أكمل تناول غدائه حتى شعر بمغص شديد في بطنه أعقبه إسهال شديد، ثم كان ما كان..
حبة طماطم قتلت جارنا الطيب.. في وطن رخص فيه الإنسان.. فلم يأته الموت هذه المرة على جناح قذيفة ولا بقبلة دافئة من شظية. ولا بزيارة مفاجأة من رصاصة مجهولة.. وإنما في حبة طماطم حملها من السوق فرحا بها مستبشرا.
وحبة الطماطم هذه رغم تفاهتها هي التابوت الذي وضع فيه الضمير الرسمي والشعبي في هذا الوطن المزدحم بالسموم وجنائز الموتى.
مات ضمير المزارع.. فلم يعد في وسعه الصبر حتى تنضج ثماره نضوجا طبيعيا. فراح ـ استعجالا للربح ـ يرش عليها موادا كيماوية تعجل من نضجها. مع معرفته بأن هذه المواد سيئة السمعة.
ومات ضمير الجهات المسئولة عندما تركت الحبل على الغارب للمزارعين ومن قبلهم المستوردين في اجتلاب السموم والمبيدات دون حسيب أو رقيب..
ومات ضمير تجار البقالات حين جلبوا للمستهلك خضروات وفواكه يختبئ فيها الموت في قسمة ضيزي لهم منها الربح وليذهب المستهلك إلى الجحيم..
هؤلاء الثلاثة هم قتلة جارنا مسعود والحالات المشابهة له.. مع سبق الإصرار والترصد.. ومن غضب الله على ثلاثتهم أنهم لن ينتبهوا لفضاعة جرمهم إلا وهم بين يدي الحكم العدل ومئات الضحايا إن لم يكونوا أكثر ممسكين بتلابيبهم طلبا للجزاء العادل.
ولنا أن نسمع كثيرا بمن قتلوا هنا وهناك.. لا بقذيفة ساقطة.. ولا برصاصة راجعة.. وإنما بحبة طماطم طائشة..
فآه من زمن أغبر تقتلك فيها حبة طماطم.