يعد إنشاء مصافي عدن منعطفا مهما في تاريخ هذه المدينة. لأن هذا الحدث كان له ما بعده من الحراك الاقتصادي والتجاري والسياسي. بل والاجتماعي باعتبار الاقتصاد عامل مهم في تشكيل المسارات الاجتماعية لأي شعب من شعوب العالم.
ومنذ أن وضع الاحتلال البريطاني يده على عدن عام 1839 لم يقدم شيئا يذكر لهذا البلد. بل إنه استفاد إلى أقصى درجات الاستفادة من ميناء عدن الذي كان آنذاك أهم ميناء في الجزيرة العربية.
وبإنشاء المصافي التي بدأ تشغيلها في يوليو 1954 كانت بريطانيا دون قصد تضع عدنا وما جاوره على أول سلم الانتعاش التجاري. الذي كان له ما بعده في تشكيل الحركات والنقابات العمالية التي تولت بعد ذلك زمام المبادرة في الحراك الثوري ضد سلطات الإنجليز المحتلة.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن إنشاء هذه المصافي لم يكن هدية من أجل عيون الثغر الباسم. فقد صممت لندن هذه المصافي وفي نيتها إقامتها في ميناء عبدان الإيراني وكانت بريطانيا قد وضعت يدها قبل ذلك على شركة النفط الإيراني. غير أن الرياح لم تجر كما اشتهت سفنها.
فقد قام محمد مصدق رئيس وزراء إيران آنذاك بتأميم شركة النفط الإيرانية. الأمر الذي جعل بريطانيا تعيد النظر في موقع إقامة هذه المصفاة. فكانت مدينة البريقة. وبهذا الحدث بدأ حراك عمراني واسع في المدينة وما حولها. وتعزز موقع عدن كقوة اقتصادية ومركز تجاري أكثر مما كان عليه. وقامت سلطات الإنجليز في عدن بإصلاحات سياسية ظنا منها أنها تمنع بذلك رياح الثورة القادمة من القاهرة وغيرها من العواصم. فبدأ التعليم ينشط. وبدأ العدنيون يتبوؤن مناصب وظيفية وعسكرية مهمة.
غير أن رياح الثورة أبت إلا أن تزأر في وجه بريطانيا فكانت ثورة الرابع عشر من أكتوبر 1962. التي أجبرت بريطانيا على حمل عصاها والرحيل عن عدن والجنوب بشكل عام بعد خمس سنوات. وبالتحديد في الثلاثين من نوفمبر عام 1967. وقد مثل هذا الاستقلال فرصة ثمينة لليمنيين في إنشاء دولة حديثة تكون لها الريادة في المنطقة تجاريا واقتصاديا وثقافيا. غير أن الشيطان الإنجليزي قبل أن يخرج من الحديقة بذر بذور الخلاف والشقاق بين فرقاء الثورة.
فبدأ حمام الدم دافقا غزيرا. وتوسعت التصفيات على الهوية بشكل جنوني. حتى إذا تم الأمر للجبهة القومية التي أصبحت فيما بعد الحزب الاشتراكي بدأت التصفيات البينية داخل الأجنحة بمتوالية بشعة. حولت البلاد إلى خرابة تتصارع فيها أشباح الموت ومردة الفناء ولا صوت يعلو فيها فوق صوت الحزب. ووجد الشعب اليمني في الجنوب آنذاك نفسه أمام كابوس مفزع طويل. يتفنن في رسم محارق الدم والجوع والعوز.
ومن نجا من أبنائه من القتل أو الاعتقال تلقفته المهاجر والمنافي نزيفا حادا للكفاءات في مختلف مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية.
وفقدت عدن خيرة أبنائها. وفقدت مناخات الأمان الاقتصادي ودفء السلام الاجتماعي. وفقدت نعمة التعايش الذي عاشته حتى في فترة الاحتلال. وحل بدلا عن ذلك الشعارات الفارغة والتحشيد الإيدلوجي المقيت. وطوابير المقهورين تصرف الأيام والليالي بحثا عن لقمة عيش صار مزدحما بالموت.