مع نسائم ذكرى الجلاء 30 نوفمبر 1967م من البديهي أن نتذكر أنه لم يكن جنوبنا اليمني ليتحرر من الاحتلال البريطاني لو أن الثوار وقتها حصروا النضال الوطني بجهة أو بعرقٍ أو بمحافظة ، وإنما شكلت واحدية النضال وقومية المعركة أحد عوامل النصر والغلبة ، وتلك هي كلمة السر في نجاح حركات التحرر في كل الأقطار ، وفي تراثنا اليمني مثلاً يقول : "ما حمله الرجال خفّ" والرجال هنا إشارة إلى الجماعة والجماعة هم الشعب كل الشعب دون تمييز ولا تحديد ، والتاريخ النضالي لليمنيين يشهد أن الثوار الأوائل تجاوزوا كل حدود الجغرافيا والديمغرافيا ، وتمسكوا بارتباطاتهم التاريخية الضاربة في الأعماق ، وبها استطاعوا أن يوحدوا الكلمة والجهد والهمة ، فكانت النتيجة تحرراً من المستعمر في الجنوب وقبله المستبد في الشمال .
هي تلك حقيقة اليمنيين الاوائل والتي تعود ذكرى الجلاء لتؤكدها ومختصرها المفيد أن النضال اليمني كان حالة عامة تشارك الجميع في حمل تكاليفها دون أن يشتكي الضيم أحدهم أو يحتكر الفخر آخر ، بل ساروا تحت راية واحدة عنوانها الحرية والحرية فقط ، واختلطت الدماء في عدن وصنعاء ولحج والبيضاء ، وأصبحت الفاتورة موزعة على جهات الوطن شماله وجنوبه ، وأي فاتورة تلك؟ دماء سالت وأرواح ارتقت ، وقرى قُصفت وجراح غائرة لم يندم أصحابها اين وكيف ولماذا حدثت ، وكيف يندمون والروح النضالية في أرقى حالاتها ، والمعنويات تناطح الجبال فكان الجلاء هو الجائزة والانجاز الذي توجوا به نضالاتهم العابرة للحدود والعصية على الاحتكار أو المصادرة .
ما يمكننا رصده أنه وبعد أن تحقق حلم التحرر من قيود الإمامة والاستعمار ظهر بون شاسع بين قناعات الثوار الاوائل وممارسات الساسة الذين آلت اليهم الأمور في جهتي الوطن ، ففي حين آمن الثوار وايقنوا أن الوطن و النضال لأجله اكبر من أن تحتويه منطقة أو فئة أو جماعة ذهب الساسة لاحقاً إلى تجيير الوطن كحق حصري لهم ، والوطنية كهبة يمنحونها أو ينزعونها متى ما أرادوا ، فحدثت الفجوة الكبيرة التي شتت شمل اليمنيين عقدين ونيف من الزمن، والتي كانت مثخنة بالصراع وسالت دماء الإخوة الأعداء في أكثر من محطة ، وكلٌ يدّعي أنه يتقرب بمخالفيه إلى خدمة وطنه!! ، وأي وطنٍ هذا الذي يرضى بذلك .
في ذكرى الجلاء نحتاج اليوم الى إعادة انتاج للنموذج الوطني الجامع الذي تحلى به الثوار الأوائل ، واستلهام روح النضال العابر للهويات الجهوية والعرقية ، والعودة إلى الأبجديات التي أرساها الثوار ، ولاجل ذاك لزاماً أن نضرب بكل ممارسات الساسة التي تلت الجلاء والانتصار عرض الحائط فلم تكن إلا مدعاة للفرقة والتمزق ، وذلك ليس ما اراده الذين قارعوا الظلم والجبروت البريطاني في الجنوب والإمامي الكهنوتي في الشمال ، ولا ملجأ لحالة التشتت التي نعيشها اليوم بفعل الانقلاب وما تلاه من فوضى وعودة للأطماع الاستعمارية إلا عبر اعادة تقييم الخطاب الوطني وتحويله نحو النموذج الجامع تماماً كما فعل الثوار لا كما افسد الساسة .
ختاماً ، يصف الشاعر لطفي جعفر أمان لحظة النصر على المحتل واستعادة الوطن بقوله :
وانتفض الزمان
دقت الساعة الأخيرة
فاندفعت جموعنا غفيرة غفيرة
تهز معجزاتها في روعة المسيرة
وجلجلت ثورتنا تهيب بالأبطال
الزحف يا رجال
الزحف والنضال
فكلنا حرية تحن للقتال
وهكذا تفجر البركان في ردفان
ورددت هديره الجبال في شمسان
وانطلقت ثورتنا مارده النيران
تضئ من شرارها حرية الأوطان
وتقصف العروش في معاقل الطغيان
وتدفع الجياع في مسيرة الإنسان
يشدهم للشمس نصر يبهر الزمان
وهكذا تبددا
عهد من الطغيان لن يجددا
وحلقت على المدى
ثورتنا تهتف فينا ابدا
يا عيدنا المخلدا
غرد ، فان الكون من حولي طليقا غردا
غرد على الأفنان في ملاعب الجنان
الشعب لن يستعبدا
قد نال حريته بالدم والنيران
وقتل القرصان .