كان موقفا محرجا ومفاجئا عندما عرف المعلم "ياسين"، أنه يعمل في مزرعة تعود لزميل له أيام دراسته الجامعية.
تعود القصة إلى قبل عامين عندما نهبت مليشيا الحوثي رواتب المعلمين، ما اضطر بالأستاذ ياسين، كغيرة من المعلمين البحث عن مصدر رزق ليعيل به أسرته.
بعد عناء بحث عمل بالأجر اليومي، في مزرعة بمنطقة ريفية، تملكها امرأة عجوز، عاملته بقسوة ونهرته مرارا لبطء عمله.
بعد أيام من عمل شاق رافقه توجيهات المرأة العنترية للعامل الجديد، وذات يوم رن هاتفها المتدلي من عنقها، في الطرف الآخر ابنها، مغترب ولديه محل تجاري، كان يتحدث معها، لخصت له الوضع، ولم تنس أن تشكو له كسل "الشاقي" وبطئه، كان ياسين يسمع بوضوح.
عُرف ياسين خلال دراسته وتدريسه أيضا بخفة ظله، وطرافته في الحديث، ربما كان ذلك شافعا له عند العجوز التي لم تكن راضية عن عمله، بعد انتهاء المحادثة سألها ياسين أن اسم ابنها، ليس غريبا عنه، تفاجأت المرأة عندما ذكر لها اسم ابنها الثلاثي.
قال لها " هذا زميلي درسنا بالجامعة سوى" كان ذلك قبل نحو 20 سنة، ليخبرها بعد ذلك بأنه أستاذ أجبرته الظروف للعمل، أعادت المرأة الاتصال بابنها لتتأكد منه، لتبدأ مكالمة طويلة بين ياسين وصديق الدراسة القديم، أعادا أثناء المكالمة جزءا من الذاكرة وكثيرا من واقع الحال"، واختتما حديثهما بابتسامة ممزوجة بالوجع، عندما شكا ياسين، على زميله شدة أمه وقسوتها" طالبا منه أن "يتوسط" له عندها".
يقول المعلم ياسين " كان موقفا محرجا، فعندما عرف انني اعمل "شاقي" تألم كثيرا لما وصلنا له، عرض عليّ خدماته، فشكرته".
يقول إن المرأة أكرمته كما طلب منها ولدها وضاعفت أجرته، يقول المعلم ياسين إنه اضطر لمغادرة المنطقة، التي كانت متنفسا لكثير من أبناء المناطق المجاورة، خوفا من تكرار موقف مشابه.
قصص كثير لمعلمين تتفطر لها القلوب، للحال الذي وصل إليه المعلمون، الذين صورهم شوقي في قصيدته في مرتبة "الرُّسل" نظرا للمهمة المقدسة التي قدموها للمجتمع، لكنهم في الحقيقة قتلوا وشردوا واختطفوا وهناك من انتحر هربا من الجوع والعار بعد ان عجز عن اشباع اطفاله وعلاجهم وكسوتهم.
تنتظم رواتب المعلمين في المحافظات المحررة، تعمل الحكومة على توفير راتب المعلمين، لكن تراجع سعر العملة هو السبب الرئيس لترك المعلمين مهنة التعليم والبحث عن مصدر آخر للرزق.
في الشارع الرئيس بمدينة مأرب، يقف عشرات العمال على الرصيف "حراج العمال" بحثنا عن فرصة عمل يومي، بين الواقفين عشرات المعلمين، اضطروا لترك التعليم.
يقول أحدهم لـ "الصحوة نت": "كان راتب الأستاذ قبل الحرب وحتى 2018، ما يوازي نحو1400 ريال سعودي، اليوم ما يساوي 155 ريال سعودي".
يشارك آخر بقوله، "ليس سهلا على المعلم ترك عمله كرسالة وليس كوظيفة، اللجوء للعمل اليومي شاق وخاصة على المعلمين، لكن على الأقل ستوفر مصروفك اليومي ولأطفالك".
في محافظة مأرب التي نزح إليها معظم اليمنيين بسبب الحرب وجرائم مليشيا الحوثي، من بين النازحين الآلاف من المعلمين بهدف العمل في ميدان التربية، لكنهم اجبروا لترك العمل كما يقولون.
فقدت معظم المدارس للمعلمين ذوي الكفاءة والخبرة والتخصص، ما أثر على العملية التعليمية خاصة مع الكثافة الكبيرة للطلاب بسبب النزوح.
مسؤول الاعلام التربوي بمكتب التربية بمحافظة مأرب، عبدالله العطار قال: "إن راتب المعلم لم يعد يكفيه مدة أسبوع أو يلبي أدنى احتياجاته الضرورية في ظل الانهيار الاقتصادي".
وأضاف في حديثه لـ "الصحوة نت" بالرغم أن السلطة المحلية بمأرب تقدم حوافز للمعلمين أفضل من الوضع في بقية المحافظات، مشيرا إلى أن تلك الحوافز لا تفي بمتطلباته، ووصفها بـ "حلول خجولة".
وتابع العطار "وضع المعلمين ينهار يوما بعد يوم مع انهيار قيمة العملة، ولو يمنح المعلم ضعف راتبه فالوضع يبقى سيئا مقابل الانهيار المتسارع لقيمة الريال، منوها إلى أن أقل راتب للمعلم قبل الحرب يساوي 250 دولارا، في حين أن أعلى راتب اليوم لم يعد يساوي 50 دولار.
وأكد أن هذا السبب هو الأبرز لتسرب المعلمين من الميدان التربوي رغم قداسته، لكن ظروف المعلمين المعيشية أجبرتهم على ترك التعليم والبحث عن مصادر أخرى للعيش تقيهم ذل الفاقة والاحتياج".
بحسب تصريحات سابقة لمسؤولين في مكتب التربية بمحافظة مأرب، فإن نسبة العجز بمدارس المحافظة تصل إلى أكثر من 60% اما بسبب ترك العمل أو الوفاة أو بلوغ أجل التقاعد.
يؤكد العطار أن ذلك الواقع سيتضاعف مالم تكن هناك معالجات حقيقية لوضع الموظفين بشكل عام والتربويين على وجه أخص، وأن على الدولة والحكومة استشعار المسؤولية والأمانة الملقاة على عاتقهم، في الحفاظ على الوطن وعلى الأجيال القادمة".
العام الماضي أعلنت السلطات المحلية، بمحافظة مأرب، منح المعلمين العاملين في الميدان حافزا ماليا قدره 30 الف ريال لكل معلم، كنوع من معالجة تدهور أوضاعهم، قرار تفردت به المحافظة دون غيرها من المحافظات المحررة، ورغم ذلك يرى كثير من المعلمين أنها ليست كافية مع التدهور اليومي لسعر الصرف.
في المحافظات التي لا زالت تحت سيطرة مليشيا الحوثي، لجأت معظم المدارس لفرض رسوم شهرية على الطلاب، (1000 ريال) لدفع مبالغ رمزية للمعلمين عوضا عن الرواتب، وحفاظا على استمرار العملية التعليمية.
يقول مدير مدرسة في حديثه لـ "الصحوة نت" إن تلك الرسوم وسيلة اضطرارية رغم ما يعاني من المتابعة، وسط تذمر الأهالي خصوصا مع الوضع المعيشي الصعب الذي يعيشه معظم سكان تلك المناطق في ظل انقطاع الرواتب وفرص العمل وممارسات المليشيات في التضييق على ارباب العمل.
يستدرك المدير، الذي فضل عدم ذكر اسمه، إنهم يعانون من انقطاع الرواتب في ظل الغلاء المعيشي والوضع العام تحت سيطرة المليشيات التي لا يهمها التعليم بل هي تعمل على تدميره.
وأضاف أن عدد قليل من معلمي مدرسته من ذهبوا للعمل في مهن أخرى، مشيرا إلى أنهم يكافحون ويبذلون جهودا لاستمرار التعليم، مضيفا "نعتبر انفسنا في جبهة في مواجهة التجهيل حتى يفرجها الله".
وبمناسبة يوم المعلم، اضرب معلمون في أمانة العاصمة ومحافظات أخرى للمطالبة بتحسين أوضاعهم، لكن لا يبدو أن هناك حلا لمشكلة التعليم على وجه الخصوص يلوح في الأفق.
وتتخوف مليشيا الحوثي من مطالب المعلمين، ان تتحول إلى ثورة، وتسارع باتهامهم تبعيتهم للخارج وهي التهم التي تلصقها المليشيات على كل من يطالب بحقه أو ينتقد جرائمها وانتهاكاتها.
وضع التعليم في كل المحافظات اليمنية لم يعد يسر، فقد تعددت أسباب ممنهجة في تدمير التعليم خاصة في مناطق سيطرة مليشيا الحوثي، وكل تلك المسببات، بحسب مختصين، تنذر بوضع خطير على مستقبل الأجيال.
ذلك بحسب مختصين، يستدعي من المجلس الرئاسي والحكومة إيجاد حلولا عاجلة تتمثل في معالجة اختلال سعر الصرف، وزيادة مرتبات المعلمين بما يضمن لهم عيشة كريمة وتدارك الوضع قبل فوات الأوان.