هل تظن أن اليمن سيعيش؟
كان القلق ظاهرا في وجه سائق التاكسي المغربي الذي أقلني من مطار شارل ديجول وهو ينتظر الإجابة..
صيغة وطريقة السؤال حيرتني وجعلتني أتساءل هل عنده ضعف في اللغة العربية أم عنده من البلاغة الشيء الكثير و يفهم اللغة العربية أفضل مني..
دار بيننا وقتها حوارا متشعبا لامجال هنا لذكر تفاصيله..
المهم دارت الأيام وهبت نسائم ال26 من سبتمبر قوية منعشة بألق وروح ثوري متجدد وللثورات الحقيقية روح لاتموت ..
أتت ذكرى ثورة السادس والعشرين من سبتمبر وقد ألقيت أمامه عصي و خزعبلات كثر فإذا هي تلقف مايأفكون ..
في هذا البلد الجميل سقطت الجمهورية أربع مرات حيث أننا حاليا نعيش عهد الجمهورية الفرنسية الخامسة التي هندسها القائد الاستثنائي شارل ديغول..
كانت الجمهورية الفرنسيةالأولى قد تأسست في عام 1792 بعد الثورة على الحكم المطلق لأسرة البوربون وكذلك بسبب غياب العدالة والمساواة ورفض الشعب الفرنسي للضرائب والجبايات المجحفة..
تعددت أسباب سقوط الجمهوريات الفرنسية المتلاحقة التي لاتختلف كثيرا عن غيرها من الثورات ربما أهمها كانت الصراعات بين القوى السياسية المختلفة والحروب الأهلية والإنقلابات المتعددة، والتشابه بين الثورات وأسبابها ونتائجها وعوامل سقوطها معلوم لمتابعي حركة الثورات و التاريخ..
لإحياء الذكرى وتجديد العهد لم أجد مكانا أكثر رمزية من برج إيفل، رمز الثورة الفرنسية التي حررت الفرنسيين من الإستبداد و غيرت وجه أوروبا والعالم للأبد..
لكن من أين لي بالعلم اليمني خصوصا أنني حديث عهد بباريس وفرنسا ككل..
ولكن مهلا فالمغاربة هنا قادرين على احضار كل شي حتى لو كان لبن العصفور..
تذكرت صاحب السؤال الكبير (هل اليمن سيعيش؟).. فقد كان يبدو (مفحوسا ) على الآخر كما نقول باللهجة اليمنيةو من النوع الذي خبزته الحياة وعجنته بل (ومرمطته) إن جاز القول..
اتصلت بصاحبنا المغربي حيث كنا تبادلنا الأرقام وأبلغته أنني احتاج خدمة صغيرة..
أبدى استعداده قائلا بكل سرور (خويا أنا مستعد لكل شي ماعدا الممنوعات)..
ضغط بأسنانه على كلمة الممنوعات، ربما لينفي الصورة السلبية المغلوطة التي ترسخت على المغاربة في فرنسا أن الكثير منهم يشتغلون في الممنوعات، وربما يكون نفي التأكيد لجس النبض..
ماعلينا..
أبلغته فقط انني أحتاج لعلم يمني للاحتفال بذكرى وطنية مهمة وغالية..
بدا عليه التردد وردد في حيرة: والله (خويا ) لا أعلم من أين يمكن شراء العلم اليمني،
ثم وهو يضحك الممنوعات أسهل بكثيير...
اتفقنا على اللقاء تحت البرج إذا استطاع الحصول على علم..
اتصل بعد ساعات بالبشرى قائلا بالفصحى ولكن بلكنة مغربية :لقد استطعت الحصول على العلم من مكان بعيد جدا خارج باريس، وكلمة بعيد جدا ومن خارج باريس من الواضح أنها ليست عفوية وسيكون لها تبعاتها المادية..
إلتقينا أسفل البرج وكان يحمل العلم الجميل ذو الألوان الثلاثة مطويا بشكل مثلث فوق يديه الممدودتين للأعلى في مهابة وجلال وكأننا سنقوم بدور تبادل لرئاسة الجمهورية ..
على أنغام النشيد الوطني الصادحة في سماء باريس بدأت برفع العلم تعانقه أضواء ايفل و تداعبه الرياح الباريسية القادمة من نهر السين المجاور..
كانت أعين الكثيرين القادمين من مشارق الأرض ومغاربها تراقبنا بفضول وتبتسم..
تداخل عندي الماضي والحاضر والزمان والمكان بشكل عجيب وتلاشى كل شيء أمامي عدا فكرة قهرية تدوي في رأسي مبشرة بأن ولادة حتمية لجمهوريتنا الثانية قاب قوسين أو أدنى ..
من نفحات سبتمبر الجميلة اللتي حدثت أن المصور الهندي اللذي استعرنا إضاءته تنازل عن مبلغ الخمسة يورو التي كان يطالب بها مقابل الإضاءة وتلك لعمري احدى الخوارق العظام لمن يعرف الهنود وحرصهم ،ربما لعله أحس أن الموضوع يتجاوز المال أو ربما تقمصته روح غاندي..
وهبت نسمة سبتمبرية أخرى تغلب فيها سحر سبتمبر المجيد على (السحر المغربي) ،حيث نسي صاحبنا أو تناسا أنه أتى بالعلم من مكان بعيد جدا خارج باريس ،غالبا أخذته نخوه عربية وأبى أن يكون أقل مروءة وشاعرية من صاحبنا الهندي..
بعد انتهاء النشيد الوطني سألت صاحبنا المغربي بابتسامة وأنا أعلم أن روح ثورة سبتمبر المجيد تملأ المكان هل تظن ان اليمن سيعيش؟
تلاشى قلق المغربي السابق وبابتسامة وثقة بلا حدود أجاب: أظن أنه سيعيش وينتصر (خويا).
باريس ٢٥/سبتمبر/٢٠٢٤