مع غروب شمس يوم الـ 30 من أغسطس 1999، انطفأ أحد أبرز منارات اليمن الأدبية والشعرية، ورحل إلى جوار ربه، إنه الأديب الكبير والشاعر الراحل عبدالله البردّوني، رحمه الله.
جارت عليه الحياة فسلبته البصر، ومُـنح البصيرة، التي تنبأ بكثير من الأحداث، منها أنه بشر بالجمهورية، وبعد الثورة حذر من عودة الإمامة والسلالة بوجه وثوب جمهورية مزيف.
في قصيدته الشهيرة "ذات يوم" من ديوان "مدينة الغد" وهي من القصائد التي يصفها ادباء بأنها ذات صبغة رومانسية، قال فيها البردوني مبشرا بعهد جديد يملأ ضياؤه الآفاق مشبها هذا العهد كـ"قلب نبي".
أتدرين يا شمس ماذا جرى؟
سلبنا الدجى فجرنا المختبى
وكان النعاس على مقلتيك
يوسوس كالطائر الأزغب
أضأنا المدى قبل أن تستشف
رؤى الفجر أخيلة الكوكب
فولى زمان كعرض البغى
وأشرق عهد كقلب النبي!!
مدرسة شعرية خالدة وثائر متجدد
في حديثه لـ"الصحوة نت" يقول الكاتب فيصل نهار يعتبر البردوني، ويعده النقاد على المستويين الأكاديمي والفردي صاحب مدرسة شعرية متفردة تميزت بلغة شعرية فريدة، تمكّن من انتزاعها من البيئة المحلية اليمنية وإدراجها في سياق النص الشعري الفصيح.
وأضاف أن البردوني خصّب نصه بالرموز الإنسانية التي تمنح النص ثراء دلاليا وتوسع أفقه الثقافي، واشتغال نصه الشعري على أسلوب المفارقة، الأمر الذي منحه طاقة جديدة، وفتح أمام المتلقي مفاجآت من شأنها أن تكسر أفق التلقي، واستلهام المعطيات السردية في النص، والشغف بالتجريب الذي لا ينبت عن الأفق الرؤيوي للشاعر.
ظاهرة أدبية وشعرية فلسفية نادرة
الشاعر والباحث الصحفي فؤاد مسعد، قال "إن الشاعر الراحل البردوني كان ظاهرة أدبية وشعرية وفلسفية نادرة، فهو اختط مدرسة ومنهجا في الشعر له خصائصه ومميزاته وسماته التي يعرف بها، سواء من حيث التركيب ومن حيث الأفكار التي أضافها، وكذلك المفردات والألفاظ التي ميزت شعره، وجعلت له لونا خاصا مميزا.
وأضاف مسعد في حديثه لـ "الصحوة نت" عرف عن البردوني تناوله مختلف القضايا والموضوعات السياسية والاجتماعية، بطريقته التي جاءت في قوالب جديدة من الإبداع والإمتاع والدهشة، تارة بالسخرية وتارة بالفكاهة، بينما ظلت القضية الوطنية اليمنية حاضرة في مختلف مراحل تجربته الشعرية، في التصدي لأفكار الإمامة وعهدها البائد، وفي التبشير بالثورة والنظام الجمهوري".
يتحدث عضو اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، عبدالله العطار، عن البردوني كقامة شعرية كبيرة حملت اسم اليمن عاليا في كل محفل شعري، وتكريما له فقد وضعت صورته على إحدى عملات الأمم المتحدة".
وأضاف العطار في حديثه لـ "الصحوة نت" لقد كان البردّوني قامة اليمن الشعرية الباسقة مثله مثل عمر أبو ريشة في سوريا وأحمد شوقي في مصر، ومحمود درويش في فلسطين.
حضور بارز رغم قسوة الظروف
أستاذ النقد والأدب في جامعة إقليم سبأ، الدكتور يحيى الأحمدي، تحدث عن البردوني والظروف القاسية التي حاولت أن تعصف به، فهو قادم من أسرة ريفية محاطة بقسوة الحياة، وينتمي لفترة زمنية تعصف بها التحديات السياسية والاقتصادية وفي بلد يعاني الاستبداد السياسي والتمييز الطبقي ويمن منهك يعيش خارج التاريخ؛ كان عليه أن يواجه كل هذه التحديات إضافة إلى تحديات خاصة تمثلت في فقدان بصره في سن مبكرة".
يضيف الدكتور الأحمدي في حديثه لـ "الصحوة نت" وعلى الرغم من تلك الظروف إلا أن البردّوني سجل حضوره البارز بما امتلك من بصيرته أدبية وحنكة سياسية، وظل رافعا صوته في وجه النظام السلالي الكهنوتي في اليمن، مستنكرا ما يمارسه من ظلم واستبداد وتخلف سياسي.
أما الكاتب فيصل نهار يتحدث عن هذه الجانب بقوله "وُلد البردّوني في رحم الثورات اليمنية المتعاقبة المتوهجة بالحرية والمؤمنة بها كمخرج حقيقي من سجن الاستبداد السياسي الامامي والحكم السلالي باسم الحق الإلهي المزعوم.
وأضاف كانت لتلك الظروف انعكاساتها على قصائده الوطنية التي تظهر فيها ثوريته على الظلم جلية أو متخفية في ظلال الوطن مضمخة بالنزعة الوطنية ومشحونة بالسخرية والتهكم والثورية في آن، مما يسم شعره وأدبه بشكل عام بمسمى "أدب الحرية" او "أدب الثورات"، إلى جانب أسلوبه الرومانتيكي الحديث.
تنبؤات البردوني وتحذيراته
عُرف في شعر البردوني تنبؤاته سواء تبشيره بانتهاء عهد الإمامة وقدوم عهد الجمهورية، والعكس تماما فقد حذر من عودة الإمامة السلالية في استنساخ أسلوبها في الالتفاف على مقدرات ثورتي 26سبتمبر و14 أكتوبر المجيدتين.
في هذه الميزة التي تميز بها البردّوني، يقول الكاتب فيصل نهار "إنها كانت من العجيب بمكان، وإن كان بعضها تشاؤميا، كحال أبي العلاء المعري وبشار بن برد وغيرهم من الشعراء الذين فقدوا البصر ومنحوا البصيرة، فقد حذر من عودة الإمامية وهو ما حدث بالفعل منذ ستينيات القرن الماضي، وصولا إلى ما تعيشه اليمن حاليا في ظل سيطرة مليشيا الحوثي على السلطة ومؤسسات الدولة، وهو ما يؤكد صدق نبوءته في ذلك.
منها قصيدته الشهيرة التي يقول فيها:
فظيع جهـل مـا يجـري
وأفظـع منـه أن تـدري
وهل تدريـن يـا صنعـاء
مـن المستعمـر السِّـري
غـُـزاة لا أشـاهـدهـم
وسيف الغزو في صـدري
فقـد يأتـون تبغـا فــي
سجائـر لونهـا يـغـري
وفـي صدقـات وحـشـي
يؤنسن وجهـه الصخـري
ثم يقول مقرراَ: خطـى أكتوبـر انقلـبـت حزيـرانـيـة الـكـفـن
ترقـى العـار مـن بيـع إلـى بيـع بــلا ثمن
ومـن مستعـمـر غــاز إلـى مستعمـر وطـنـي!!
صور شعرية باذخة
يقول عضو اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، عبدالله العطار، "كان طابع البردّوني الشعري يميل إلى المدرسة الرومانسية كما يرى بعض النقاد، وحملت قصيدته بمجملها الكثير من الصور الشعرية الباذخة، والمعاني الدقيقة والأخيلة التنبؤية كالتنبؤ بمقتل ابراهيم الحمدي، وتنبؤه بما سيحدث للثورة والثوار من الخذلان:
والذين بالأمس ثاروا
أيقظوا حولنا الذئاب وناموا
حين قلنا قاموا بثورة شعبٍ
قعدوا قبل أن يروا كيف قاموا
ربما أحسنوا البدايات لكن
هل يحسّون كيف ساء الختامُ؟!
ثورته ضد الظلم والطغيان
يقول الدكتور الأحمدي "لم تكن القضايا السياسية وحدها حاضرة في شعر البردوني، بل سخر جانبا منه في محاربة الجهل والفقر وتعرية النظام الكهنوتي، مناديا في قصائده إلى الحرية والعدل والمساواة، ورفض الظلم وداعيا اليمنيين إلى التمسك بهويتهم وتاريخهم وتحريضهم على مقاومة أشكال الظلم والاستبداد.
ومثلما عرف عن البردوني ثورته ضد الإمامة عرف عنه أيضا انتقاده للأخطاء والتجاوزات فيما بعد رحيل الإمامة والاحتلال.
يتحدث الشاعر والباحث الصحفي فؤاد مسعد، عن هذا الدور بقوله "في مرحلة ما بعد الثورات فقد كان صوت البردوني في هذه المرحلة قويا في كشف مساوئ الأنظمة الحاكمة، حتى لو كانت ثورية وجمهورية، وهو النقد الذي لم يقف عند حدود اليمن، ولكن تجاوزها ليصل إلى آفاق الوطن العربي الكبير.
يضيف مسعد، أن من "ثوريته النقدية" التي تجاوزت الحدود قصيدته الشهيرة "أبو تمام وعروبة اليوم"، والتي كانت رسالة تعريف بالشعر اليمني المعاصر، كما أنها رسالة تعريف بالواقع العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، بعد رحيل الاستعمار المباشر وبقاء نفوذه وتأثيره.
البردوني حيا
الأكاديمي الدكتور الأحمدي يصور البردوني حيا من خلال قصائده ومواقفه، يقول الأحمدي "في ذكرى رحيل البردوني الـ 25 ، تحضر مواقفه المنحازة للمجتمع وقضاياه وتبني همومه ومشكلاته، ويبرز دوره المحوري في تشكيل الوعي السياسي والاجتماعي؛ حيث عبر عن ذلك في إنتاجه الأدبي والفكري والسياسي.
وأضاف الأحمدي "25 عاما على رحيل البردوني لكنه لا يزال حياً بيننا، وإنتاجه الأدبي محل الدراسة والبحث في جامعات عربية وأجنبية، وقصائده تردد على ألسنة المحبين والمهتمين في مختلف المناسبات الوطنية والثقافية، وحضوره في الأدب العربي لا يقل أهمية عن كبار شعراء الأدب العربي الحديث.
واختتم الأحمدي حديثه "من الظلم أن نتحدث عن البردوني كشاعر وحسب؛ إنما نتحدث عنه كشاعر وأديب ومفكر ومثقف وسياسي محنك ترك بصمته في الوعي اليمني والعربي"
فقد عبر في قصائده عن معاني الحرية والكرامة، ولايزال صوته يصدح في جبهات النضال، محتفظا بمكانته المرموقة، فيما إرثه الأدبي يعد مرجعًا للأجيال القادمة، ورمزا للأدب المقاوم.
إحياء إرث البردوني
يتابع العطار في استذكار سيرة البردوني بقوله: "سيظل البردوني رغم إعاقته المبكرة صاحب تجربة شعرية فريدة على المستوى المحلي والعربي، ومحل دراسات متعددة الرؤى والتناول، وقد اجترح كثير النقاد بعض الجوانب في شاعرية البردوني وتجربته الشعرية من جوانب متعددة، ونالت هذه الشخصية الفذة بحاجة إلى الكثير من تتبع خيوطها الرفيعة، وإبراز ملامحها المتوهجة".
لم يكتف عضو اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين عبدالله العطار، عن الحديث عن تأريخ البردوني الماضي، بل إحياء ارثه الكبير عبر إنشاء مركز دراسات لأعماله الشعرية والفكرية والنقدية والفلسفية.
والشاعر البردوني من أبرز الشعراء والأدباء في العالم العربي، وهو من مواليد عام 1929، بقرية "بردون" محافظة ذمار، وعندما كان في الخامسة من عمره أصيب بمرض الجدري، ومن شدة الإصابة فقد البردوني بصره.
عشق اليمن وعرفه اليمنيون والعرب، بشعره وأسلوبه النادر، ورغم شهرته لكن اليمن كانت معشوقته وحبيبته، وأسكنها مقلتيه وبين جنبيه، فانشغل بها واستحوذت على صوته وقصائده.