طالما صادفنا مصطلح العولمة وبشَّر به الكثيرون دون إدراك حقيقي للوجه الأسود الذي تمثِّله هذه العملية على خصوصيات مجتمعاتنا الضاربة في العمق ثقافياً وحضارياً ، وخاصة أنها تأتي ممن لا يملكون هذا العمق ، ولأنهم كذلك ولا يمكن ارجاع الزمن للوراء يلجأون لرسم معالم الحاضر ، وجعله تحت سيطرتهم وتحكمهم ..
"العولمة" هذا المصطلح وما يندرج تحته أو يتفرَّع منه يكاد يكون أكثر الأمراض خطورة على المجتمعات الشرقية خلال المائة السنة الأخيرة ، وكان العالم قبلها سليمًا مُعافًى من هذا الخطر، ولكن كلما تقدم الزمان أصبح معرَّضا للإصابة بهذا الخطر دون أن يشعر! ، والأسوأ أن هذا الخطر ليس حكراً علينا بل يمتد إلى كل المجتمعات ذات الحضارة أو الثقافة الخاصة! في أي من جهات العالم .
بعيداً عن الخوض في غمار التعريفات الاصطلاحية والمؤلفات العلمية المعقَّدة يمكن النظر للأمر بطريقة مختصرة باعتبار أن العولمة "فهي عملية جعل الشيء عالميًّا في مداه وتطبيقه" ، والـ (الشيء) هنا يشمل "كل شيء" ثقافيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً، وعسكريّاً وسياسيًّا... إلخ ، ومن هنا تكمن الخطورة على المجتمعات ذات الثقافات أو الحضارات الخاصة، ففكرة العولمة لا تحتمل تنوّع الثقافات، أو الإبقاء على حضارة ما في أي قُطر من العالم إلا تلك التي تعمل تحت ظل الشمولية العالمية "الكونية"!
يرتكز عمل العولمة على نشر ثقافة المصَدِّر على حساب ثقافة المستقبِل، بل تعمل على فرضها فرضا، وحين يكتمل فرض تلك الثقافة في المجتمع المستقبِل لها، تختفي حضارة ذلك المجتمع تحت أقدام تلك الحضارة الهشة التي لا جذور لها، نعم هي هشَّة تمامًا ، ببساطة لأنه حتى تتحوَّل الثقافة إلى حضارة فهي تحتاج إلى مئات السنين حتى ترسِّخ أقدامها في المجتمع، ويكتمل شكلها أو صفاتها البنائية، وهذا ما لم يحدث في العولمة .
هجمة العولمة على الثقافات تتنوع درجات خطورتها ونتائجها ولكن من أهم مظاهر انتصارها في المجتمعات : انتشار المدارس الأجنبية التي تُعلِّم الأجيال ثقافةً "منقطعة الجذور" عن ثقافة مجتمعهم ناهيك عن أُسَرهم، فيخرج الطالب ممسوخَ الثقافة، مشوَّه العقل مشتّت الفكر ، فيكون في المجتمع ساخطاً على كل ما فيه من قواعد يعتقد بأنها تخنقه ، لأنه بالطبع نشأ على ما يخالفها تماماً، وينتقل الشاب بعد تخرُّجه إلى مرحلة البحث عن مجتمع واقعي يعيش فيه ثقافةَ العولمة تلك ، فيبدأ في الدعوة إلى فكره وإدخال ما يخالف كلّ فطرة بشرية سليمة ، وهو بذلك يؤسِّس لنواة مجتمع مشوه فكريّا كفكر المؤسِّس .
لننتبه جيداً أننا في مرحلة سحق الثقافات لتبقى ثقافة واحدة هي ثقافة العولمة لتمثل الصورة العالمية الموحدة وفق النموذج الغربي ومن هنا يبرز وجهها الأسود ، ولابد من الاتجاه نحو حفظ ثقافة الشرق وحضارته فلدينا من التراث الثقافي والحضاري ما نتِّقي به الهجمة ونقاوم به الغزو ، ونتعايش مع الواقع المفروض دون التفريط بخصوصياتنا والتنازل عن مميزاتنا ، فقط نحتاج لتأصِيل هذه الفكرة ، وتحويلها لواقعٍ معاش .