على خارطة اليمن الكبير، تمتد رقعة حضور القبيلة اليمنية، التي طالما كانت عماداً للحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية للبلاد، ونسجت القبيلة عبر قرون من الزمن خيوط تاريخها ببطولة وشجاعة، وها هي اليوم تجد نفسها في مواجهة تحديات غير مسبوقة، وسط هذه التحديات، تقف جماعة الحوثي كمليشيا مسلحة سطت على الدولة، وتسعى بوسائل متنوعة للسيطرة على هذه القبائل وتطويعها لخدمة أهدافها السياسية والعسكرية.
من إثارة الفتن والخلافات، إلى محاولة إعادة تشكيل التقسيمات الإدارية، مرورًا بتوظيف وثيقة ما يسمى بـ "الشرف القبلي"، تعمل مليشيا الحوثي على إضعاف القبائل، وجعلها أداة بيدها، كما تسعى الجماعة إلى تنحية المشايخ التقليديين واستبدالهم بآخرين موالين لها، مما يضمن ولاء القبائل واستمرارية نفوذها.
هذا التقرير يسبر أغوار هذه الاستراتيجيات والأساليب التي تستخدمها مليشيا الحوثي لتحقيق سيطرتها على القبائل اليمنية، بهدف تقديم صورة واضحة عن الواقع الراهن، وتسليط الضوء على التحديات الكبيرة التي تواجه القبائل في صمودها أمام محاولات السيطرة والهيمنة، في ظل صراع يعيد تشكيل ملامح اليمن يوماً بعد يوم.
إثارة الفتن والخلافات بين القبائل
تتعامل مليشيا الحوثي مع القبائل في مناطق سيطرتها بأساليب متعددة تهدف إلى السيطرة عليها وإضعافها لخدمة مشروعها السياسي والعسكري، وتعمد لأجل ذلك، إثارة الفتن والخلافات بين القبائل اليمنية؛ لإضعافها وتشتيت قواها، حتى يسهل عليها السيطرة عليها وتطويعها لخدمة مشروعها.
يشار إلى أن السفير الفرنسي كان قد أكد في حوار مع صحيفة الشرق الأوسط نهاية ديسمبر 2022، أن الحوثيين "يدمرون المجتمع اليمني من الداخل، ويدمرون الهياكل القبلية والقيم القبلية التي تحمي النساء والأطفال، حيث أقاموا نظاماً من الرعب والمُراقبة على السكان".
فالمتتبع لما تقوم به مليشيا الحوثي منذ نشأتها في 2004 تعمل باستمرار على استغلال الصراعات القبلية وتسليح بعض القبائل ضد الأخرى؛ بهدف تفتيت الوحدة القبلية، وإضعاف القوى المناهضة لها، مما يسهل عليها بسط نفوذها والسيطرة على المناطق المختلفة، لتعكس بذلك التحديات الكبيرة التي تواجه القبائل اليمنية في مناطق سيطرة الحوثي، في سعيها للحفاظ على استقلالها وكيانها أمام محاولات السيطرة والهيمنة الحوثية.
ويرى مراقبون، أن مليشيا الحوثي تعمل على استغلال الصراعات القبلية التي تعد جزءاً من النسيج الاجتماعي والتاريخي في اليمن، حيث تتنافس القبائل على الموارد والنفوذ والسيطرة، الأمر الذي يجعل مليشيا الحوثي تستغل هذه الصراعات لتعزيز موقعها السياسي والعسكري من خلال إحياء النزاعات القديمة، حيث تقوم مليشيا الحوثي بالبحث عن النزاعات القديمة بين القبائل وتعيد إحيائها، وهذا يشمل النزاعات حول الأراضي والمياه والموارد الأخرى.
كما تعمل المليشيا الحوثية على نشر الشائعات والتحريض بين القبائل؛ لتعميق الخلافات وتشجيع العداوة، حتى يسهل السيطرة عليها، اضافة إلى ذلك، تقوم المليشيا بتعميق الخلافات الحالية، من خلال استغلال الأحداث الصغيرة بين القبائل لتضخيمها وتحويلها إلى نزاعات كبيرة، ومن ثم القيام بدعم طرف ضد آخر، سواء دعماً مادياً ومعنوياً لطرف معين في النزاع، مما يؤدي إلى زيادة التوترات وتعميق الخلافات.
إشغال القبائل بصراعاتها الداخلية
إضافة إلى ما سبق، تعمل مليشيا الحوثي على خلق حالة من عدم الاستقرار بين القبائل، من خلال تشجيع النزاعات القبلية، لكي تضمن أن القبائل تبقى منشغلة بصراعاتها الداخلية، مما يقلل من قدرتها على التفرغ لمقاومة الحوثيين، فضلا عن تشتيت جهود القبائل في حل نزاعاتها الداخلية بدلاً من توحيد صفوفها لمواجهة الحوثيين، مما يمنحها مساحة أكبر للتحرك وتنفيذ أجندتها.
ويرى مراقبون، أن مليشيا الحوثي تعمل على اشغال القبائل بصراعاتها الداخلية، من خلال تسليح بعض القبائل ضد الأخرى، كإحدى الاستراتيجيات الفعّالة التي تتبعها مليشيا الحوثي مما يؤدي إلى تفاقم النزاعات بين القبائل وبما يخدم مصالحها، لتعزيز سيطرتها على القبائل.
إضافة إلى ذلك، يؤكد مراقبون، أن مليشيا الحوثي تقوم بتقديم دعم عسكري مباشر لبعض القبائل التي تدعمها أو التي يمكن أن تستخدمها كأدوات في نزاعاتها ضد القبائل المقاومة لمشروعها، ولا يقتصر الدعم على الأسلحة فقط، بل يشمل الذخائر والعتاد العسكري، مما يعزز قدرة القبائل الموالية لها على الصمود في النزاعات الطويلة.
كما توفر المليشيا الحوثية تدريباً عسكرياً لأفراد القبائل الموالية لها؛ لتحسين كفاءتهم القتالية، مما يجعلهم أكثر فاعلية في النزاعات ضد القبائل الأخرى المناهضة للحوثيين، وفي بعض الحالات، تقوم مليشيا الحوثي بإشراف مباشر على العمليات القتالية بين القبائل؛ لضمان تحقيق الأهداف الاستراتيجية لها، وليس أدل على ذلك، انشاءها كتائب عسكرية تتبع بعضها قبائل موالين لهم والأفراد من تلك القبيلة، بحيث يكونوا كجيش احتياطي تابع لهم في حال حصول أي تحركات ضدهم.
تحويل القبائل إلى أدوات صراع
وفي إطار سياستها الممنهجة لإضعاف القبيلة اليمنية في مناطق سيطرتها، تعمل مليشيا الحوثي على استغلال العداوات بين القبائل لتحويلها إلى أدوات صراع، حيث تقاتل القبائل بالنيابة عن الحوثيين لتحقيق أهدافهم دون الحاجة إلى التدخل المباشر، ناهيك عن إضعاف القبائل غير الموالية لها، من خلال دعم الطرف الموالي لها، مما يسهل عليها فرض سيطرتها على المناطق المتنازع عليها.
ويرى مراقبون، أن مليشيا الحوثي تعمل على نشر الفوضى الممنهجة، من خلال تسليح القبائل لزيادة الفوضى وانعدام الأمن في المناطق القبلية وخصوصًا غير الموالية لها، مما يصب في مصلحة الحوثيين عبر تشتيت القبائل المعارضة لها، وتسهيل السيطرة على الأراضي، ناهيك عن النزاعات المسلحة بين القبائل التي تسببت في خسائر بشرية ومادية كبيرة، مما يضعف القبائل ويجعلها أكثر عرضة للابتزاز والسيطرة من قبل الحوثيين، وهو ما نلحظه اليوم لدى كثير من الثأرات وتحديدا في محافظة إب، كيف عادت للواجهة، حيث تستخدمها المليشيا كوسيلة لنشر الفوضى الممنهجة، واستنزاف القبائل وجعلهم في دوامة لا تنتهي من الصراعات البينية.
مما سبق، يتضح دور مليشيا الحوثي في استغلال الصراعات القبلية وتسليح بعض القبائل ضد الأخرى، حيث تعمل المليشيا على تفتيت الوحدة القبلية وإضعاف المعارضة، مما يسهل عليها بسط نفوذها والسيطرة على المناطق المختلفة في اليمن. هذه الاستراتيجيات تعكس التحديات الكبيرة التي تواجه القبائل في سعيها للحفاظ على استقلالها وكيانها أمام محاولات السيطرة والهيمنة الحوثية.
وتأكيدا على هذا ما يجري من حصار مليشيا الحوثي لأهالي قرية "بني يمن" بمديرية كحلان الشرف، التابعة لمحافظة حجة (غربي اليمن)، حيث تمنع دخول وخروج الأهالي منذ أكثر من أسبوعين لإجبارهم على اتفاق غير مرضٍ في قضايا خلافية.
وأضافت المصادر أن قرية "بني يمن" تعيش أوضاعاً إنسانية مزرية بعد منع اسعاف جرحى اشتباكات مطلع الشهر الجاري مع قبيلة "بني موانس" المجاورة بمديرية "الجميمة" وخلفت قتلى وجرحى من الطرفين، حيث تسعى المليشيا لاستغلال سلطاتها لنشر الثارات القبلية لإضعاف أبناء القبائل.
تقسيم إداري جديد لإضعاف القبيلة
وفي إطار محاولاتها الرامية لإضعاف القبيلة اليمنية في مناطق سيطرتها، تسعى مليشيا الحوثي إلى محاولة إضعاف القبائل من خلال التقسيم الإداري الجديد، والذي تستخدمه المليشيا كأداة لإضعاف القبائل والسيطرة عليها من خلال إعادة رسم الحدود الإدارية، حيث يتم تقسيم المناطق القبلية، وإعادة توزيعها إدارياً بشكل يؤدي إلى تقليص نفوذ مشايخ القبائل المعروفين وتفتيت الوحدات القبلية بين أفرادها.
كما تعمل المليشيا الحوثية على إنشاء مديريات جديدة، مثل مديرية صنعاء الجديدة وغيرها، وتقسم المناطق إلى مديريات جديدة، مما يضعف الروابط القبلية التقليدية ويزيد من قدرة الحوثيين على فرض سيطرتهم الإدارية والسياسية، ناهيك عن مساعيها الحثيثة لتطويع القبائل وجعلها أداة بيدها لخدمة مشروعها.
على سبيل المثال لا الحصر، ما يجري من محاولات حوثية لإعادة التقسيم الإداري وتحديدا في المناطق المحيطة بصنعاء، ومنها مديرية همدان، التي تسعى المليشيا لتقسيمها من خلال ضم أجزاء منها تشمل مناطق "شملان، والعرة، ودار الحجر، وغيرها" إلى مديريتي معين وبني الحارث التابعتين لمدينة صنعاء وهو ما دفع قبائل للانتفاض رفضا لهذا القرار.
وكانت المليشيا قد سبقت تقسيم مديريات داخل صنعاء، واستحداث مديريات جديدة باسم "صنعاء الجديدة" وذلك في إطار محاولات الرامية لإعادة التقسيم الإداري، بما يسهل عليها السيطرة على القبيلة، وفقا لما يحقق هدفها السياسي والعسكري والأيديولوجي.
ويرى مراقبون، أن مليشيا الحوثي تستخدم عدة أساليب لتطويع القبائل وتحويلها إلى أدوات تنفيذية لخدمة مشروعها من خلال التجنيد القسري، حيث تجبر الشباب من أبناء القبائل على الانضمام إلى قواتها العسكرية، مما يزيد من تأثيرها ونفوذها في المناطق القبلية، إضافة إلى محاولة استخدام الولاءات القبلية؛ لتجنيد الأفراد، وتوجيههم لدعمها في النزاعات ضد خصومها.
أداة للضغط على القبائل
وفي هذا الإطار قامت مليشيا الحوثي بعمل وثيقة ما يسمى بـ "الشرف القبلي"، والتي ألزمت فيها القبائل للتوقيع عليها، والتي تهدف للتبرؤ من المناهضين لها حسب زعمهم، بينما هي في الحقيقة تسعى لاستغلالها للسيطرة على القبائل في مناطق نفوذها.
ويرى مراقبون، أن الوثيقة التي قوبلت برفض شعبي وقبلي كبير، تسعى من خلالها مليشيا الحوثي لتعزيز سيطرتها على القبائل، من خلال إلزامهم بالتوقيع على الوثيقة التي تحتوي على التزامات بدعم الحوثيين والتعاون معهم في مختلف القضايا، وتستخدمها المليشيا كأداة ضغط على القبائل لضمان ولائها وتقديم الدعم اللوجستي والعسكري لها.
وكان مؤسس الشباب المؤمن في اليمن، محمد عزان، قد كشف في مقابلة مع صحيفة المدينة السعودية في وقت سابق، أن ما يعرف بـ«ميثاق الشرف القبلي» الذي نادت به جماعة الحوثي، لم يكن وليد اللحظة، بل هو قديم وهدفه خلق الصراعات، مبينا أن هذا الميثاق كان بمثابة خطة (أ) للاستيلاء على اليمن..".
وأضاف عزان أن «الميثاق القبلي يعني تفكيك القبائل بحيث لا تصبح لبنة واحدة، واستبدال القبائل بقبيلة الحوثي المنتشرة داخل القبائل»، مشيرا إلى أن الملتحقين بالحوثيين يشكلون حاليا أشبه ما يكون بالقبيلة، فيما يتمحور المخطط حول ضرب كل قبيلة من الداخل عبر أبنائها».
بالإضافة إلى ذلك، تعمل مليشيا الحوثي جاهدة على تنحية زعماء القبائل وخصوصا المعارضين لها، واستبدالهم بآخرين موالين، سواء من خلال تصفية الزعماء التقليديين، كما تظهر بذلك احصاءات كبيرة، لعشرات من الحالات التي قامت المليشيا بتصفيتها واغتيالها، سواء بالاغتيال المباشر أو اختطافهم.
كما تعمد مليشيا الحوثي إلى تنصيب زعماء قبليين جدد يكونون موالين لها، مما يضمن لها السيطرة المطلقة على القبائل. على سبيل المثال، شهدت مناطق مثل صعدة وعمران وحجة تعيين شخصيات جديدة بدلاً من المشايخ المعارضين لها، أو التي تعتقد بأنها غير موالين لها، وفقا لمراقبين.
وهكذا، تعتمد مليشيا الحوثي في تعاملها مع قبائل اليمن في مناطق سيطرتها على استراتيجية متعددة الأبعاد تشمل إثارة الفتن، وإعادة التقسيم الإداري، وتطويع القبائل لخدمة أهدافها، واستغلال ما يسمى بوثيقة الشرف القبلي، وتنحية الزعماء المعارضين، وهذه الأساليب تهدف جميعها إلى تعزيز سيطرة الجماعة على المناطق القبلية وضمان ولائها لتحقيق مشروعها السياسي والعسكري.
وأخيرًا، تواجه القبائل اليمنية تحديات هائلة في ظل هذه الاستراتيجيات الحوثية، حيث وجدت القبيلة نفسها اليوم عالقة بين مقاومة السيطرة، والتعامل مع الفوضى المتزايدة، وفي ظل هذه التحديات يظل التكاتف القبلي وتعزيز الوحدة الداخلية بين مكوناتها، السبيل الوحيد لمواجهة هذه التحديات الحوثية، والحفاظ على الاستقلال والهوية القبلية.