بزغ فجر الإنسانية من غار حـــــــــراء، و بعث - بداية- نوره، و ضياءه على مكة المكــــــرمة، فضــــاق بذلك الـبزوغ الظلم و الظالمون، و تنمّرت قريش في وجه النور المبين الذي بدأ خطواته الأولى؛ لينير القلوب، و المسالك و الدروب.
يضيق الطغاة بالنور، و يتنمّر البغاة و المجرمون في وجه الحق؛ فيستدعون كل وسائل الإبادة و الإرهاب، متوسلين بهذه الوسائل الإجرامية البشعة، أن يطفئوا النور، و أن يصرفوا الناس عن نصرة الحق.
و يبرز الحصار كوسيلة حرب و إبادة من قديم. ففي مكة المكرمة تداعت قريش لحصار محــــمد صلى الله عليه وسلّم، و المسلمين معه، و كوسيلة ضغط شمل الحصار عشيرة الرسول الكريم كي تتخلى عنه كما تخلى عنه عمه أبو لهب، مع آخرين من قرابته.
حرّر مشركو قريش صحيفة تعاقدوا فيها على ألا يبيعوا أو يبتاعوا ، أو أن يتعاملوا بأي شأن من الشؤون مع من أســـــلم، و مع عشيرة الرسول ممن ناصره،و علقوا تلك الصحيفة في الكعبة المشرفة.
و تم تنفيذ الحصار، و أطبق عليهم بكل شدة، و استكانت كل قريش لذلك القرار، رضا من أغلبها، و مسايرة، و استكانة من بعضها، حتى بلغ الجهد و الجوع من المحاصَرين كل مبلغ.
ما أشبه الليلة بالبارحة، و هاهي ذي غزة الصمود تقاوم الحصار منذ 18 سنة، و هنا تعز تواجه الحصار منذ تسع سنوات.
كان العـــــــربي يتمتع بقدر كبير من الشــــرف و الكــــرامة و النخوة، و الشجاعة، و كان هشام بن عمرو بن الحارث أحد رجالات قريش من هؤلاء.
لم يكن قد أسلم، حين بدأ شرفه و نخوته يستنهضونه لاتخاذ موقف تجاه حصار قريش؛ يترجم عمليا ما يتمتع به من صفات.
و كانت أولى خطواته العمليّة أنه كان يوقر البعير بالطعام ثم يسوقه- ســـــــرا - في اللـــــــيل نحو الشِّعب الذي نزح إليه المحاصَرون، غير أن هذا العمل ــ على إيجابيته ــ لم يَشفِ نفس هشام، فراحت صفات العربي الأبي تتفاعل في صدره لاتخاذ موقف حاسم ينهي ذلك الحصار الجائر.
قد يدّعي شخص ما، أو فئة ما صفات المروءة، أو الرجولة مجرد ادعاء؛ و لكنهم أبعد ما يكونون عنها. فها هي الحوثية تدّعي بُنُوّتها لأشرف الخلق، لكنها تثبت في كل ساعة أنه مجرد ادعاء تناقضه و تنسفه بتصرفاتها المشينة كل لحظة ..!!
و لأنَّ زعامات قريش اتخذت لقرار الحصار غطاء الإجماع، فقد رأى هشام بن عمرو أن يُسٰقط الحصار، و يسقط صحيفة المقاطعة بالطريقة نفسها.
بدأ يفكر في كيفية حشد التأييد لإسقاط قرار الحصار ، فحدد رجالا من زعامات قريش ليقنعهم بالهدف الذي يسعى إليه، فمضى من فوره إلى الرجل الأول: زهير بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي، فراح يستثير نخوته: يا زهير ! أقد رضيت أن تأكل الطعام، و تلبس الثياب... و أولئك المحاصرين،و فيهم أخوالك لا يباعون، و لا يبتاعون، و لا... أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي جهل ثم دعوتَه إلى مثل ما دعاك إليه ما اجابك إليه أبدا.. قال زهير: ويحك ياهشام، و الله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقض الصحيفة حتى أنقضها، قال: قد وجدت رجلا، قال فمن هو؟ قال: أنا، قال زهير: إبْغِنا ثالثا.
فراح هشام إلى كبير من كبار قريش؛ المطعم بن عدي، أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف و أنت شاهد على ذلك، موافق لقريش فيه !؟
أما و الله لئن أمكنتموهم من هذه؛ لتجدنهم إليها منكم سِراعا، فقال المطعم ويحك يا هشام لو كان معي مؤازر، قال قد وجدت، قال من؟ قال أنا، و زهير المخزومي، قال: ابغنا رابعا.
و هكذا ذهب إلى زعيمين آخرين من زعماء قريش : البَختري بن هشام، و زَمْعة بن الأسود، فتجاوبا لهشام. فاجتمع الخمسة و تعاهدوا على القيام في نقض الصحيفة، و إسقاط الحصار، و رتبوا لذلك أمرهم.
فلما أصبحوا، و غدوا إلى أنديتهم حول الكعـــــــبة المطهرة، و غدا زهير بن أبي أمية - و هو الذي اتفقوا عليه أن يبدأ الحديث - عليه حلة فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام و نلبس الثياب، و بنو هاشم هلْكى لا يُباع و لا يُبتاع منهم، و الله لا أقعد حتى تُشقّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
قال أبو جهل، و كان في ناحية المسجد: كذبت ، و الله لا تشق، قال زمعة بن الأسود: أنت و الله أكذب، ما رضينا كتابتها حيث كتبت ، قال أبو البختري، صدق زَمْعة، لا نرضى ما كُتب فيها، و لا نُقِرّ به؛ قال المطعم بن عدي صدقتما و كذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها، و مما كتب فيها؛ و قال هشام بن عمرو نحوا من ذلك، فقال أبو جهل: هذا أمر تُشُووِر فيه بغير هذا المكان ..!!
إنه موقف أسقط ظلما، و كسر حصارا، تولاه رجال وقفوا بشجاعة في وجه قرار الحصار و المقاطعة.
و أمة العرب، أمة و لّادة لا تقبل الضيم، و لا ترضى بالهوان، و فيها رجالات في المشرق العربي، و رجالات في المغرب العـــربي، و رجـالات عرب الصحراء، و رجـالات عرب الوادي، و من ورائهم أمة الإسلام، خاطبت عاصمتها يوما السحاب أن تمطر حيث شاءت فخراجها سيصب في خزائنها.
بمقدور الأمة أن تجمع كلمتها، و أن يجتمع قرارها، و أن يسقطوا كل حصار، و كل قرار ظالم جائر يستهدفها.