و لِمَ لا نتذكر و الأمة تعيش-اليوم- مواجهة مفتوحة،بمكر ظاهر ، و كيد خفي، و على كل الصُّعُد؟
و ليس الهدف من التذكر الاقتيات على الماضي، أو مجرد التفاخر بأمجاده. لكن التذكر إنما يأتي لاستلهام روحه و نهجه و البناء على أسسه و مبادئه، إفادة من صوابه و إيجابياته، و اتعاظا من سلبياته و إخفاقاته، و مواجهة لمكر الماكرين، و أحقاد القرون.
و أمامنا اليوم ذكرى الفتح الأعظم؛ فتح مكة المكرمة، الذي كان في 21 من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة،و هو الفتح المليئ بدروسه العملية العظيمة، ثم نلج إلى ذكرى معركة عين جالوت التي وضعت حدا لتغول المغول، و همجية التتار،و تساقط دويلات العرب و المسلمين.
صدع محمد صلى الله عليه وسلّم بدعوة الحق، فثار الملأ من قريش مسخرين كل طاقاتهم، و جموعهم ضد دعوته، و ما علموا أنهم يعملون بكل قوتهم ضد أنفسهم.
يدعوهم الرسول الكريم للسبيل الأقوم، و المجد الأعظم، و لحمل رسالة الحضارة و العلم، و الانطلاق في رحاب الآفاق الروحية،و المادية؛ فيأبون إلا أن يظلوا أصناما متحركة، تعكف على أصنام من حجارة، لا يرون ما وراء مكة، و لا يفيقون عن ضلالاتهم و جهالاتهم المطبقة.
و إذ تستعصي الجاهلية بالملأ من قريش، فتصم آذانها، و تستغشي ثيابها، و تَعمَى عن الإبصار، و تطمس عن نفسها البصيرة، و تلجأ إلى إعلان حرب لا هوادة فيها على الرسول و دعوته و أصحابه، ينهض الرسول للبحث عن بدائل تكون منطلقا لرسالته، فتحذوا الطائف حذو قريش في العماهة، و الضلال، و تتلكأ قبائل عن القبول، و يختار الله أن تقبل يثرب دعوة الحق المبين، و الرسالة الخاتمة،فتكون مهاجَر الرسول و المسلمين، و منطلق البناء،و الانتشار،و الحضارة.
لم تكن الهجرة للراحة و الاستجمام، و إنما للعمل و البناء، و التنشئة،و الجهاد في الله حق جهاده.
أما قريش فقد أغلقت على نفسها كل البدائل و الخيارات، و كما عكفت على أصنامها بجهالة، عكفت على موقفها بحمق، حتى وجدت نفسها توقع على صلح الحديبية معترفة بمن حاربته سنين عددا.
و فيما عاد الرسول الكريم من الحديبية؛ ليتحرك في فضاء واسع،داخل الجزيرة و خارجها مخاطبا ملوك العالم، بدعوتهم للإسلام، بقي الملأ من قريش على عماهتهم، يعكفون على أصنامهم كَلَفاً بها، و خوفا عليها من الزوال.
لم يمض على صلح الحديبية الذي أقر الهدنة عشر سنوات غير سنتين، فتغدر قريش بالصلح، بمشاركتها لحليفتها بكر بماهجمة قبيلة خزاعة حليفة المسلمين؛ فيلبي الرسول صلى الله عليه وسلّم استغاثة حليفه ليكون الفتح الأعظم، حيث تفتح مكة أبوابها على مصاريعها لمن كان الملأ أغلقوا عليه كل الأبواب، و يقف الملأ الذين حاربوه 21 سنة يجيبون عن سؤال من الرسول لهم، و قد وقفوا بين يديه مذعنين: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا أخ كريم، و ابن أخ كريم ! فيرد عليهم بكل ما يجمع معاني العفو و الصفخ، و التسامح : لا تثريب عليكم اليوم.
لقد مضى العمل و التربية، و الإعداد، و البناء على أساس من الإيمان، و توظيف الخيارات، و اختيار البدائل حتى جاء نصر الله و الفتح.
أما معركة عين جالوت التي تقع على بعد بضع عشرات من الكيلومترات من غزة الطوفان، فقصتها عجيبة هي الأخرى، و الأعجب منها حال المسلمين يومذاك ، و الأشد عجبا، و بؤسا، و غرابة، موقف أمراء ، و ملوك المسلمين.
تهاوت إمارات، و ممالك إسلامية من وسط آسيا الواحدة تلو الأخرى بيد التتار، في ظل شماتة بعضهم ببعض، و كان من غباء الشامت أنه يرى مصير أخيه يتهاوى، و لا يفكر أدنى تفكير أن الدور القادم عليه، و قد كان ..!!
و استمر سقوط الممالك و الإمارات تباعا، في ظل تسابق و تنافس تلك الممالك في من سيقدم خدمات و دعما أكبر و أكثر للتتار ، إلى حد الانضمام معهم لقتال إخوانهم، و إسقاط إماراتهم و ممالكهم حتى شارك الكثيرون لمحاصرة بغداد عاصمة الخلافة، و إسقاطها في شهر صفر من سنة 656 من الهجرة، كما كانت عمالة الروافض حاضرة بقوة في التمهيد لإسقاط الخلافة.
فيا لها من مواقف خيانية ذليلة، حقيرة، دنيئة، و مخزية ..!!
و كل الذين تسابقوا، و تنافسوا لخدمة التتار، لقوا المصير الأسود تباعا؛ بذلة و مهانة و خزي عظيم..!!
و وصلت جحافل التتار غزة، و راحت رسلهم تحمل التهديد و الوعيد للمماليك في مصر، و دعوتهم للاستسلام. غير أن الروح في مصر كانت حية، و كانت الروح الشعبية-أيضا-يقظة، و كان علماء الأمة في الميدان، و من لا يعرف دور سلطان العلماء العز بن عبد السلام.
رفض السلطان قطز؛ سلطان مصر تهديد التتار، معلنا بلسان الحال، و المقال، أنه نوعية من الحكام غير النوعية التي هَدّها الترف، و أفزعها الخوف و الجبن، و ضربت عليها الذلة و المسكنة، و فقدت شرفها و مسؤوليتها، فرد على التتار بحزم، و جابههم بحزم، و نازلهم بشجاعة.
و كان أن تواجه الجانبان بمعركة عين جالوت يوم الجمعة 25 من شهر رمضان 658هـ. و كانت معركة حاسمة من معارك الإسلام الخالدة؛ فحين اشتدت المعركة و كاد جانب التتار أن يتغلب صرخ قطز بالشعار الذي ألهب الحماس، و ربط القلوب، و ثبّت الأقدام: وا إسلاماه ! فرددته الألسن، و القلوب، و ترجمته السيوف، و كان الفتح و الظفر.
و وضعت معركة عين جالوت حدا لطموحات المغول، بل سحقت همجيتهم، و هزمتهم شر هزيمة.
و لئن كان يقال عن التتار: إذا سمعت بأن التتار هزموا فلا تصدق ! و قد قيل عن جيش صهيون: أن الجيش الذي لا يقهر، وها هم أبطال طوفان الأقصى يمرغون أنفوفهم في الأوحال.