إن إعادة تعريف خصوصية الصراع العربي/الفلسطيني- الاسرائيلي،والقضية الفلسطينية،وطبيعة أدوات الصراع،وطبيعة وجود اسرائيل،وطبيعة الرؤى والمدركات عن هذا الصراع واطرافه،هو ما ترمي إليه"الثورة الفلسطينية"والمعروفة اعلاميا ب"طوفان الأقصى"،وهو ما يفتح بابا ومسارا تاريخيا للتغيير على سبيل الواقع،والمستقبل ككل.
ثانيا: الواقع والواقعية أو المقاومة في الواقعية الجديدة:
------------------------------------------
اولى الحقائق في هذا الواقع الجديد الذي اختطته المقاومة الإسلامية"حماس"ومن إليها من مقاومة فلسطينية متعددة يكمن في"ترنح المشروع الصهيوني"؛فلا التقرب من اسرائيل كان مجديا،ولا الإلتحاق بطهران يضمن أمن احد أو يحفظ عهده وسلامه كما يراهن البعض الآخر،حسب ما يذهب لذلك برهان غليون.
وبهذا فالمقاومة الفلسطينية وعلى رأسها "حماس" تجترح مدرسة جديدة "للواقعية"،بحيث تكون واقع الواقع والتاريخ،وذلك لأننا كنا نتحدث قبل عملية "طوفان الأقصى"عن الواقع المختل لصالح اسرائيل وننسى الحقيقة التاريخية،أو نتحدث عن الحقيقة التاريخية وننسى الواقع؛والأمر أن ليست هناك"واقعية معادية للتاريخ"،كما أنه ليس هناك تاريخ ينكر الواقع،فالواقعية من دون مثل أعلى تصبح وقائعية،كما يقول مجدي حماد.
ومع كل هذا الإختلال الفادح في ميزان القوى تبقى اسرائيل مشروعا مستحيلا بالمعنى التاريخي،وما القصور في الأمة العربية الا ويكون متمثلا في إدارة هذه الموارد وليس النقص في الامكانيات أو في المبادئ أو في التضحيات،وهذا ما اثبتته وأكدته المقاومة الاسلامية"حماس" وبقية الفصائل في انتقالها من الدفاع أو النضال المدني أو العمل"الفدائي"المحدود إلى الهجوم،وفي عقر قوات العدو.فالحق هنا أصبح مسيجا بالقوة،ولم يعد حقا من دون قوة،كما هي حال اسرائيل قوة من دون حق،والتاريخ لا يعمل في اتجاه واحد،بل هو صناعة البشر،والحرية أول مايميز الفعل البشري،وإرادة الإنسان هي العامل الأول في سير التاريخ،ولولا إرادة المقاومة في تغيير هذا الواقع لما كانت هذه العملية ولا حدثت ثورة.
فالهزيمة تتمثل في التخلي عن هدف تكتيكي أو استراتيجي،أما الاستسلام فهو قبول التخلي عن الهدف تكتيكيا كان أو استراتيجيا،كما يقول مجدي حماد،فالواقعية التي تعني القبول بالأمر الواقع المفروض على العربي الفلسطيني خيار سياسي خاطئ بالضرورة،ليس لأنه يفترض أن هذا الواقع غير قابل للتغيير فحسب،بل وأنه يرسي الهزيمة عبر قبول التخلي عن الأهداف الاستراتيجية والتكتيكية معا.
والواقعية التي اجترحتها"حماس"المقاومة هنا تعني التعرف بصفة دقيقة وموضوعية على الواقع الناتج من تطورات الصراع العربي/الفلسطيني-الاسرائيلي،واخذه بعين الاعتبار في كل خطة لإدارة هذه المواجهة ضرورة علمية وموضوعية،سيما وأننا نعرف أن اسرائيل "الدولة"أقرب للدولة العلمية في خططها وبرامجها واستراتيجياتها!
وأصبح البديل -لا اقول الوحيد هنا- للاستراتيجيات السابقة-عربيا-هو المقاومة التي تعني عدم قبول الأمر الواقع والعمل على تغييره. والمقاومة هنا لا تقتصر على الصيغة الشعبية المعروفة بالعمل العسكري،بل مفهوم واسع واستراتيجية شاملة لإدارة الصراع،فهي تشتمل على إعلام المقاومة،وثقافة المقاومة،واقتصاد المقاومة،وتحالفات المقاومة،ودبلوماسية المقاومة،وتنظيمات المقاومة..إلخ.
واستمرار الحرب غير النظامية من جهة المقاومة ليس امرا سهلا،خاصة أمام عدو اسرائيلي عظيم الامكانيات،فهي تتطلب تمويلا وتخطيطا وتدريبا وامدادا بأسلحة حديثة،أي لابد من قاعدة ارضية مؤقتة لتقوم بتقديم كل هذه التسهيلات.
وما كسر حالة العجز العربي"للمقاومة حماس"ومن إليها وتحويله من حالة دائمة إلى حالة عابرة،وما ينطوي عليه من انهيار للواقعية العربية أو الغربية"سيان"،أو تيار المهادنة والاستسلام للأمر الواقع،والتي بنى عليها كل توجهاته في المنطقة وعلى رأسها المشروع الصهيوني الا تحديا للتفوق الاستعماري،وأصبح امره واقع وقادر على النجاح وقابل للاستمرار ولذا فهو اكثر ما يخيف الغرب ومن إليه،تبعا لبنائهم استراتيجية إدارة الصراع العربي/الفلسطيني-الاسرائيلي على قاعدة الواقعية تلك،أي العجز العربي واستثناء انعدام المقاومة الشعبية وغير الرسمية،حسب قراءة مجدي حماد مع الاضافة مني.
وبالتالي فالمقاومة هنا كسر وتغيير في معادلة القوة؛حيث استراتيجية المقاومة لا تعني تجاهل الواقع،بل تعني استغلال العناصر الايجابية وشل العناصر السلبية،وهو اسلوب معروف في إدارة الصراعات. ولو أمعنا النظر في منطلق التفكير الاستراتيجي إلى حسابات الصراع لوجدنا أنها تنطلق من مفهوم المعادلة القتالية،وهذه المعادلة تتحدد بأربعة عوامل لإحراز النصر :القيادة،الإرادة،السلاح،القوى البشرية،أي أن السلاح يمثل ربع المعادلة فقط،والأمر بحاجة قبل كل شيئ إلى قيادة استراتيجية واعية بحقيقة دورها،ثم إرادة قتالية،ثم قوى بشرية تغطي نقص السلاح جزئيا،حسب قراءة مجدي حماد الفذة.
وإذا كان من الصعب حسم الصراع عسكريا وفقا لهذا الواقع،فإن وظيفة المقاومة الشعبية المسلحة هي في عدم حسمه سياسيا ضد الأمة العربية،وضد القضية الفلسطينية ككل. وإذا كان "التوازن الاستراتيجي" مختلا لصالح اسرائيل؛فإن وظيفة المقاومة الا تجعل "التوازن النفسي" مختلا لمصلحتها ايضا،حسب قول مجدي حماد.إن هذا المسار قادر على أن يعيد النضال الفلسطيني إلى المجال التحريري،تحرير الارض والشعب والوطن،وهو الذي سلكته كل الأمم التي عانت الاستعمار.فالثوابت بوصفها تتمثل في نقاط إلتقاء يمكن أن تتجمع القوى حولها وتتفق عليها،وبالتالي تشكل حافزا للعمل والتنظيم،أما المتغيرات التي تعني الوصول إلى اهداف ظرفية،فإن الحل يكون في إطار الثوابت الفلسطينية وليس خارجها،وهذا النهج الواقعي الجديد للمقاومة هو ما يتصل بتعزيز القدر المشترك بين الفلسطينيين،وربطه كمفهوم بالوحدة الوطنية،وهي سياسية في مضمونها،ومفهوم وحدة المصالح وهي اجتماعية اقتصادية،والشعب الفلسطيني هو صاحب المصلحة الاساس.
ثالثا: المستقبل للمقاومة وللدولة:
-----------------------------------------
إن استمرار المقاومة وقوة فعاليتها تحدد الاتجاه نحو المقاومة الكلية،أي مقاومة قانونية وشعبية،وعسكرية،ومقاومة التطبيع. وتعزيز قوى المقاومة وقوى العمل الوطني الفلسطيني لحضورها،بما يمنع عزل المقاومة وتهميشها،وإتاحة الفرصة لمسارات أفضل للعمل الوطني الجاد،كما تفتح الباب لتطوير عمل المقاومة في اطار استراتيجية تحرير فلسطين،كما يذهب لذلك برهان غليون وغيره.
فالمقاومة وفي صورتها المتجلية في عملية"طوفان الأقصى" قد عملت على تحطيم صورة الأسطورة والجريمة الاسرائيلية ذاتها،إذ أضحت المقاومة رهن بجسارة الفكر الثوري المقاوم والمنتفض،وبحرية الإرادة وصلابة الفعل،والمقاومة مرشحة للاستمرار واكتساب الأفضلية في الموقع والأداء؛حيث ضرب العمق الاسرائيلي وزعزعة الأمن الصهيوني العسكري والنفسي في المركز والعمق.
فمن خلال اجواء الحرب هناك نجد أن اسرائيل لا تستطيع ربح الحرب الدائرة في غزة ولا نالت من إرادة المقاومة،والأحرى أنها-أي اسرائيل-قد دخلت في النفق الذي دخلت فيه من قبل جميع المشاريع الإستعمارية،وكسر "الغيتو المغلق"أي غزة على سكانها من خلال حرب الإبادة لم تعنف المقاومة،بل أكدت وجودها،ومواجهة أزمة اسرائيل التكوينية،وبالتالي فالاعتراف بالهزيمة التاريخية والاستعداد لتفكيك منظومة"الابارتهايد"والتطهير العرقي هو ما ينتظر اسرائيل،ناهيك عن زعزعة مسار التطبيع واتفاقاته،والحرب هي على تقرير مصير الوطن العربي،حسب افكار برهان غليون.
ولذا نجد أن الحرب في غزة عبارة عن صدام متعدد الأقطاب،إذ نجد جميع الأطراف نفسها في الخندق الأخير دفاعا عن رهاناتها.فالفلسطينيون"=المقاومة"الذين يلعبون ورقتهم الأخيرة بالحفاظ على حلمهم وحقهم بفرض حل سياسي يفضي إلى إقامة دولة فلسطينية،وتنقذ تضحياتهم الهائلة قرنا كاملا،واسرائيل التي تلعب مصيرها دولة وكيان عنصري لاشريك لها في فلسطين التي كانت،إذ سوف تكره للقيام بتنازلات في هوية اسرائيل الصهيونية نفسها إذا اعترفت بوجود شعب فلسطيني،كما يقول برهان غليون،خصوصا وأن الحلم العقائدي في اسرائيل مختلف عن بقية انظمة العالم؛حيث هو أرض وليس نظاما اجتماعيا.
علاوة على ذلك فإن الحكومات العربية التي خسرت رهانها على التطبيع المحلي،ولا تريد أن تخسر بهزيمة الفلسطينيين حربا جديدة مع اسرائيل من دون أن تخوضها،بل المقاومة رأس حربة تلك الحرب.والتكتل الغربي وفي مقدمته أمريكا التي ترى بنهاية لهذه المواجهة يكون نتيجتها تقزيم اسرائيل ونزع طابعها الاستثنائي واجبارها على الخضوع للقانون،وبالتالي هزيمة الذي لايرى في اسرائيل سوى امتداد له،وقاعدة عسكرية اساسية،تضمن له نفوذه الاستثنائي في منطقة استثنائية من الناحية الجيواستراتيجية،ولايزال يستخدم تفوقها بنجاح لفرض إرادته على شعوبها واجبار حكوماتها على الخضوع لحساباته وخدمة مصالحه.
إذ لم يعد أمام اسرائيل والشركاء الغربيين بعد طوفان الأقصى التي أعادت فلسطين القضية والشعب إلى واجهة الأحداث واحبطت محاولات تغييب القضية والشعب معا سوى خيارين:
الأول: الدخول في مفاوضات جدية تنهي سياسة الانكار وتسعى إلى تطبيق حل الدولتين،الذي أصبح يحظى باجماع عربي ودولي شامل،أو الهروب إلى الأمام والتقدم نحو حرب شاملة وحاسمة تفضي بإبادة الشعب الفلسطيني وتغييب حضوره-أي ما تراه المشكلة الأساسية-التي تهدد وجود الكيان،وهذا يعني سوق المنطقة بأكملها نحو الهاوية بما في ذلك اسرائيل عينها،حسب قراءة غليون،وعليه فتحرير فلسطين اكثر واقعية من الاعتراف باسرائيل،حسب إلياس سحاب،والوقوف مع المقاومة وما تجترحه هو المستقبل الذي يضمن لأوطان العالم العربي مستقبلها كذلك.
فدولة فلسطينية يقوض شرعية كيانها الغاصب ووضعها دولة فوق القانون،وستسرع في مجيئها هذه الأحداث مجتمعة،وبالتالي فالمستقبل هو للمقاومة وللدولة الفلسطينية،وللقضية الفلسطينية برمتها.