يفتح السابع من أكتوبر تشرين الثاني من عام ٢٠٢٣،والذي أصبح يعرف اعلاميا ب"طوفان الأقصى"الباب على مصراعيه لدراسات ومقاربات وقراءات استراتيجية للصراع العربي/الفلسطيني-الإسرائيلي،ليس بوصف الحدث "ثورة"بذاته فحسب،وتتطلب عقلا استراتيجيا مغايرا لواقع ما فتئ يطفح بوقائعية أو "وقيعة" استراتيجية وسياسية بالأحرى، مجانبة للوعي بالحقائق والواقع والتاريخ،بل بوصف الحدث "استثناء استراتيجيا" في منطقة جيواستراتيجية استثنائية برمتها،لذا يتطلب عقلا استراتيجيا استثنائيا للبحث والقراءة والمقاربة ككل.وهذا ما سنحاوله في هذا المقال على حلقتين،أملا في وضعه كمشروع دراسة مستقبلا بعون الله.
أولا:في الدلالات المكانية والزمانية:
---------------------------------------------
إن ما بين حدث ٧ اكتوبر ٢٠٢٣ الفلسطيني/العربي وحدث ٦ اكتوبر١٩٧٣ المصري/العربي أكثر من صلة رحم،أكثر من دلالة،أكثر من معنى مجرد،وأكثر من بعد استراتيجي وتكتيكي،ليس لأنهما على صلة وفي صلب الصراع العربي/الفلسطيني-الإسرائيلي فحسب،ولا أنه نفس التاريخ بفارق نصف قرن ويوم تقريبا،ولا المكان رغم دلالاته العميقة،إنه إعادة تعريف ومقياس له مغزى تاريخي،بالنصر والهزيمة،بالدفاع عن النفس والوجود،بالإستراتيجيا والتكتيك،بالقضية والمبدأ،بالثوابت والمتغيرات،بأساس الصراع وكنهه،بحقائق التاريخ والجغرافيا،بالسياسة والأمن،بالمسئولية الفردية والجماعية،بالثقافة والقيم الحضارية،بالإرادة الحرة والخيارات،بالتوازن النفسي والعسكري،بالوجود والمسائل الكبرى والعلاقات ككل.
فأساس الصراع العربي-الغربي هو اسرائيل كدولة احتلال وقلعة متقدمة للغرب الإستعماري،لا الغرب الحضاري،دولة "ابارتهايد"أو "الغيتوالمغلق"،إذا هو صراع استراتيجي وحضاري ينتقل من جيل إلى جيل ومن زمن إلى آخر، صراع حضارة عربية اسلامية مع كيان اسرائيلي يقدم نفسه على أنه القلعة المتقدمة والحصينة والمنيعة للغرب،فلا حضارة اسرائيلية بل وظيفة استعمارية وتسلطية وكيان مصطنع،وعملية"طوفان الأقصى"تسقط أحد أهم اركان منظومة السلطة الكونية الإستعمارية كمشروع هيمنة هدفه ترسيخ التجزئة والضعف في مقابل مشروع وحدة ونهضة أبناء العالم العربي.ومن هنا أصبح مشروع التحرر الوطني الفلسطيني مشروع مواجهة تاريخية مع الترتيبات السياسية العالمية،وليس مجرد حركة تحرر وطني ضد الإستعمار والإحتلال،كما يذهب لذلك سيف دعنا.
ناهيك عن كون"طوفان الأقصى" هو في العمق ضرب للأسس والإفتراضات الأيدلوجية التي استندت إليها منظومة القوة والسلطة في العالم.
ومثلما كان نصر ٧٣ نصرا في معركة تكتيكية لم يحسم الصراع على المستوى الاستراتيجي،رغم تمهيده لحسمه لصالح العرب،كما يقول مجدي حماد،ف"طوفان الأقصى"يستثمر ذلك النصر التكتيكي ويدخله في حلبة الحسم على الصراع في مستواه الاستراتيجي؛حيث هو يتصل بالمبدأية ذاتها،فضلا عن انتقال الصراع إلى داخل الكيان نفسه،لذا أضحى الفعل الفلسطيني المقاوم لحماس هنا تهديدا وجوديا مباشرا للكيان الاسرائيلي وتحديا وتهديدا من نوع مختلف استراتيجيا.والشعب الفلسطيني بوجوده المجرد حتى قبل أن يتحرك هو الضمانة الكبرى "لقضية فلسطين" كلها،ووجوده هو التهديد الوجودي لاسرائيل،والمقاومة هنا ذراع استراتيجية طويلة لهذا الشعب،ولهذا الوجود،ولهذه الأمة العربية،ولتلك القضية وقيم الحرية والوطن والعدل والمساواة الحضارية.
وما نظرة الغرب التي تعتبر وجود اسرائيل شرعيا الا خروجا عن نسق تلك القيم الحضارية الناظمة والمهيمنة والمرجعية عالميا،فضلا عن نظرة الغرب التي تعتبر مقاومة هذا الوجود الاسرائيلي خرقا للشرعية الدولية،وهذا هو ما يفسر مواقفهم وسلوكهم تجاه المقاومة الفلسطينية بكل فصائلها،والمقاومة بهكذا سلوك فإنها بهذا تبتغي وضع حد لتلك النظرة والسلوكيات الغربية الاسرائيلية التي تعتمرها ازاء الحق الفلسطيني/العربي،وهو ما ينطوي عليه عمليا في إعادة تعريف بالقضية والحق والصراع وأساس كل منها معا. و"دينامية الصراع"هنا أضحت عربية/فلسطينية،عبر اظهارها هدف تحرير فلسطين كمبدأ،وحق الشعب الفلسطيني كوجود،إذ الحق الوطني الثابت وغير القابل للتصرف للشعب الفلسطيني على حد تعبير الأمم المتحدة ذاتها،حقه في وطنه قبل كل الحقوق،وهو حق يلتحق بالمقدسات ولايسقط بالتقادم،ولا يقبل مفهوم التنازل،وحقه في العودة،وحقه في تقرير مصيره،وحقه في إقامة دولته،والإرادة الحرة تلعب الدور الأكبر في كل ذلك،وصولا إلى الوعي التاريخي؛حيث هو إدراك نقدي للتاريخ وإدراك لاستمراريته وتواصل مراحله.
فضلا عن كل ذلك فإن متغيري الزمان والمكان في السابع من اكتوبر يفصحان عن مراجعة فكرة "التضامن" مع الشعب الفلسطيني،لأنها تعني أن الصراع اساسا فلسطيني-اسرائيلي،وأن موقع العرب فيه ليس أكثر من مساندة الأشقاء،فلا تعود اسرائيل عدوا قوميا حسب فكرة مجدي حماد،والمسألة أكبر من ذلك إذ هي دفاعا عن الوطني ومصالحه العليا واتصاله بالأمة العربية،فالأمن القومي العربي يتداخل مع الأمن القطري والوطني لأي دولة عربية،واسرائيل كيان ودور ووظيفة،فإذا أمكن التعايش مع الكيان،فلا إمكانية للتعايش مع "الدور"الاسرائيلي عربيا.وثورة طوفان الأقصى هي في العمق ضرب للكيان وللدور وللوظيفة،إذ أن اسرائيل ليست مجرد أداة غربية بل احتلال استيطاني له مصالحه الذاتية والخاصة.
ومقياس النصر والهزيمة ليست عملية هنا أو هناك،بل ثمة إرادة ليست عرضة لأي احتلال،وهذا هو المقياس الحقيقي للنصر والهزيمة،وعملية "طوفان الأقصى" قد وجهت "ضربة قاصمة"لن تخرج اسرائيل من هذه الواقعة الا وحشا جريحا متخبطا بدمائه،كما يقول برهان غليون. وكما وضعت ال"ثورة"الفلسطينية نفسها كمسار للخلاص الجماعي في السابع من اكتوبر فإنها ترمي لاستعادة الرابط بين مسار الفرد ومصير الجماعة ماديا ومعنويا وسياسيا،وذلك عبر التمسك بالعروبة ثقافة وهوية وفعلا،كما يقول سيف دعنا.
كما أن من أهم الدلالات التي ستنتج من الحدث كفارق، نزع الوضع الاستثنائي الذي جعل من اسرائيل دولة فوق القانون وشجعها على تبني سياسات عنصرية من دون عقاب، وما تفوق الذكاء الإنساني والطبيعي على التكنولوجيا،وتفوق الإيمان على الغطرسة والعنجهية،وتفوق الأمل بالتحرر والإنعتاق على إرادة السيطرة والعنصرية،أي تفوق الإنسان الحر على الآلة العسكرية،كما يذهب لذلك غليون، الا دلالة عميقة تقوض اسطورة اسرائيل وتنزلها للواقع،فالتوازن الاستراتيجي المختل لصالح اسرائيل أضحى محل شك أمام الهشاشة والهلع والزيف الذي خلقته عملية "طوفان الأقصى" عمليا،وبما يؤثر على"التوازن النفسي"ويجعله لصالح الفلسطيني مقاومة وشعبا وإرادة وثورة تحرر جسورة بكل المقاييس..ولاشيئ سوى الهزيمة لاسرائيل في المدى المنظور والبعيد ايضا.