ثالثا: في الحرية والتحرر:
--------------------------------
بما أن الجمهورية تنبع قيمتها من ذاتها، أي بما تشكله من ممارسة فعلية للحرية وتحقيقا للقيم التي تقام باسمها وفي سبيلها من مساواة حركية اجتماعية وسياسية ومبدأ ناظم لتداول حقيقي للسلطة-وإن ظلت كفكرة لم تتحقق كواقع بعد-،فضلا عن معيار شرعية حقيقية؛ فإن مبدأ التكافؤ في الفرص، وما ينطوي عليه من مساواة ومشاركة وكرامة ايضا هو وحده اساس المواطنة في الدول الحديثة الديمقراطية. ولهذا فقد أصبحت الجمهورية في اليمن شرط اساس لتحول الحرية في المجتمع، وفي النظام السياسي إلى قيمة اساسية ملهمة وقائدة، وتعزز من تلقاء نفسها العناصر الضرورية لحفظ التوازنات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على حد سواء.
فالحرية أضحت تحررا، وتوسعا لمجال الحريات من الفقر والجهل والمرض، ذلك الثالوث المدمر الذي كانت الإمامة تعبه، أو التخلف بمعناه الشامل الذي كانت الإمامة والمستعمر يعتمره كسياسة وتنميه كلازمة لبقائهما، أي إدارتهما له كأزمة؛ حيث الفقر والبؤس والظلم والأنانية والاحتكار، يفضي إلى الاستقالة المعنوية والانكفاء السياسي والاجتماعي والمذهبي على الذات.
فكما أطلقت سياسة الجمهورية الطبقات الوسطى وحررتها من عقال الاحتكار والتمييز القائمة، وبالتالي استقلالها وآلية توسيعها وتعاظم نفوذها، بل ونقلت من الفئة الأدنى اشخاصا كانوا على الهامش ،إلى المتن وإلى الرئاسة، أي القيادة لكل الفئات، فقد أصبحت تشتد على مفهوم سيادة روح الإجماع والتوافق الميكانيكي الذي يشجع على المصالحة والتسوية، وبالتالي انتجت ثقافة متحضرة، أي خلقت قطيعة مع ثقافة تعايشت مع الاستبداد والكهنوت والجور، والإستعمار، والتمييز العنصري والشمولية، والدونية واليأس وجبتها معا.
رابعا: نحو ثقافة سياسية جديدة:
------------------------------------‐-----
لقد جاءت الجمهورية كفكرة ودولة ونظام لتثري ثقافة سياسية جديدة للنخبة والمجتمع والشعب ككل، أي خلق قطيعة كاملة مع ثقافة الإمامة والمستعمر، وتأسيسه جديدة قائمة على فكرة الجمهورية ذاتها دولة ونظاما ،أي الشعب بكل فئاته وجماعاته وجهاته وقواه كافة. هذه الثقافة السياسية التي تستمد قيمها من أخلاقية وانسانية فعلية، وتدعم التمسك بها وبحرية تم انتزاعها بالكفاح الطويل والمضني، والنضال الخلاق ضد الإستعمارين الداخلي والخارجي، قد أصبحت قانونا قائما على مفهوم راسخ للحق، كما يقول غليون.
علاوة على ذلك فهي تعمل كديناميكية تشجع جماعات الشعب وفئاته المختلفة على الإندماج الوطني،وباعتبار الإندماج السياسي والوطني مكملان واحدهما للآخر،ومنعا لإنتاج علاقات المراتبية الإمامية والسلاطينية الإستعماري التقليدي ،والذي كانته تلك المراتبية التقليدية مؤشرا على الإنحطاط والتخلف والجمود والتراجع،والإنقسام العمودي،والتذرير الأفقي الفئوي،ومرتعا للإنهزام والنكوص،وحائلا أمام الإندماج الوطني،وبالتالي أمام تكوين الأمة بالمعنى الحديث للكلمة،أي بناء ثقافة سياسية وطنية وعالمية توحد انماط الإنتاج والإستهلاك والقيم الإجتماعية على مستوى البشرية والوطن جمعاء،حسب فكرة غليون وتعبيره. وهكذا أضحت الجمهورية مصدر الأمل والملهم أمام العجز الذي كان وقابع في تأمين الحد الحيوي من الحاجات المادية والمعنوية والنفسية للشعب.
فنظام الجمهورية ودولة الجمهورية اليمنية جاء نتيجة للكفاح التاريخي الطويل والشاق والمعقد ضد الماضي وإرثه السلبي وانحطاطه؛حيث تقاطعت مصالح الجماعات والقوى الإجتماعية المختلفة مع المصالح الوطنية العليا،وتبدلت جذريا بالتالي في هذا السياق العديد من المفاهيم،وتم القضاء على الثقافات الإقطاعية والكمبرادورية،وتحالفات النخب المتسلطة ومصالح الخاصة والفئوية التي ارتبطت بالمستعمر وسياساته. الأمر الذي ساهم في بلورة تدريجية لميزان قوى وطني ودولي جديد،مقبول ومعتبر من قبل الشعب وقواه الوطنية في آن،وشكل اساسا لمعيار القوة السياسية والمجتمعية وكيفية بناءه،ووسائل حيازته المشروعة.
فمن القضاء على الهشاشة التي كانت الإمامة والمستعمر تعتمرهما وتتخذها كاستراتيجية للسيطرة والإحتواء وبالتالي وجود لهما ؛إذ الهشاشة تعني الإفتقار إلى القوى الإجتماعية التاريخية،أي المحركة الفاعلة والقيادية،أضحت ثقافة إعدام الهشاشة وتجاوزها،أي خلق مقومات التنظيم الذاتي بثقافة سياسية ونفس جمهوري جديد،هو خلق للدولة والمجتمع وفاعليتهما ككل. وبالتالي انتاج نظام المجتمع ووحدته واندماجه،باعتباره مشروعا اضافيا وتكميليا،أي القضاء على العطالة التاريخية التي كانت الإمامة والمستعمر يرتعان منها وبها،حسب فكرة غليون مع التحوير والإضافة مني.