تواجه الجمهورية اليمنية اليوم تحد وتهديد وجودي مباشر،ليس كنظام حكم فحسب،بل وكدولة ومفهوم ونظام؛فالجمهورية بقدر ما أضحت هوية سياسية للشعب والدولة معا،بقدر ما تعكس نفسها كمصدر أساس للتاريخية،وأداة تعميم القيم الحضارية،وقوة داخلية وخارجية في الوقت عينه معا،وهي بالضرورة الشرعية الناجمة عن تعزيز القدرة للشعب والمجتمع،وتحقق الإندماج والتجسيد العقلاني،ودالة الرشد السياسي،والحس التاريخي والعصري والأخلاقي للشعب اليمني برمته.
إذ وجود الجمهورية في الوقت عينه شرعية للمجتمع الذي تقوم عليه،وهويتها هويته،وزمانيتها زمانيته. وفي هذا المقام سنتتبع الجمهورية كمفهوم ومعنى ووظيفة ودولة،نظاما،ومرجعية ثقافية وسياسية واجتماعية،إطارا واستراتيجية،وقيما ناظمة ودلالات اجتماعية،وأيدلوجية وطنية وحداثة ككل.
أولا-في المفهوم والمعنى والوظيفة:
--------------------------------------------
إذا كانت الجمهورية كمفهوم تعني دولة جمهورية الشعب الحر،أي دولة الحرية التي لا تخضع لإرادة فرد،ولا لإرادة طبقة،أو إرادة اسرة أو حتى دولة اخرى كشاكلتها،أو دونها أو أقوى منها،بل تعبر عن الإرادة الجمعية للناس"=الشعب" الأحرار؛فسيادتها انعكاس لسيادة كل فرد منهم،وهذه هي الدولة-الأمة الحديثة مقارنة بالسلطنة أو الأمبراطورية،حسب تنظيرات برهان غليون وما اصطلح عليه علماء الإجتماع السياسي وعلماء السياسة ككل.
هكذا تصبح فكرة الجمهورية=الدولة الحرة"نواة أو مرادفة لفكرة الديمقراطية،التي تشكل ضمان الحرية لكل فرد مبرر وجود الدولة ومصدر شرعية السلطة والحكم،أو ما يسميه "مل"الحكم الصالح،أي الأكثر ملائمة للتقدم،أو تبعا لمفهوم العقد الإجتماعي وتنظيرات"روسو" التي استخرج من فكرة التجمع،مفهوم الجمهورية،ومنه الديمقراطية،ثم الأمة،ثم الدولة،ثم الإرادة العامة،ثم إرادة الفرد العاقل،ثم المصلحة،ثم القانون،والذي يتصل بها كلها بمفهوم الفرد الحر العاقل والفاضل،ناهيك عن مركزية مفهوم العدل في ظاهر متن الجمهورية لأفلاطون،حيث لايعني النظام هنا نظام الحكم،ولكن النظام الإجتماعي_السياسي برمته.
وولادة إرادة التحرر"=الجمهورية"لم ترتبط هنا بولادة حكم القانون،وانتشار ممارسة أفضل لمفهوم العدل،أو المزيد من سياسات المساواة وضمان الحريات الشخصية والجماعية،أو رعاية كرامة الإنسان ورفع الوصاية عن ضميره فحسب،بل وبتفاقم التمييز العنصري بجميع اشكاله،وانبثاث جرثومته،وخلاياه السرطانية في جميع انحاء واجزاء الجسم اليمني السياسي والفيزيائي برمته،استعمارا وكهنوتا،الطبقي والطائفي،الإجتماعي والثقافي،الجنساني والديني معا.
وما التركيز على ما يوحد الجمهور لا على ما يفرقه؛حيث الجمهورية كنظام حكم ودولة يعني تطوير لأيدلوجية وطنية تجاوز فيها الأفراد خصوصياتهم الطائفية والأثنية والعشائرية،واندمجوا في كتلة شعبية ووطنية واحدة،فكانت من أهم العوامل التي ساعدت على تحقيق الإستقلال،وإنهاء حكم الإحتلال والإستعمار بشقيه الداخلي الذي لا يمكن أن يكون بدون الخارجي،والشيئ بالشيئ يذكر.
فالجمهورية تعني القضاء على النظام الإجتماعي والسياسي الذي كان مرتكز التخلف والجمود والعصبية والإنقسام والوصاية المركبة.كما أن الجمهورية تعبير عن معركة في صلب الصراع التاريخي والعالمي،من أجل السيطرة وإعادة توزيع القوة المادية والمعنوية،أي رأس المال الإقتصادي والتقني والعلمي،وأهم منه رأس المال الإجتماعي الذي هو الثقة،التي تصنع التضامن وتوحد الأفراد وتنشئ القوى الحية،حسب فكرة غليون.مثلما أن الجمهورية كفكرة تحمل أهم الدلالات الإستراتيجية في الحفاظ على البقاء والذات،ومنها الحرية والإستقلال،وتلبية حاجات الناس الأساسية من أمن ووسائل معيشة ونسل؛فالجمهورية بما تعنيه من حيازة القيم النادرة أكثر من الذهب:السلام والأمن والعدالة والحرية والمساواة وحكم القانون والرفاه المادي،تعكس الموقع الذي يحتله الشعب في شبكة العلاقات والمصالح والفرص وتوزيع الموارد الخاصة بالمجتمع. وتحصيل جميع هذه المكتسبات والمصالح والقيم لا يرتبط بالحرص على أي هوية ثقافية أو مذهبية،بل بالدفاع عن الوجود نفسه.
وأولى وظائف الجمهورية هو إنتاج إرادة جماعية،وهذا هو السبيل الوحيد لجعل غاية الدولة تحقيق تطلعات اعضائها وحاجاتهم،أي أن يتاح لهم أن يقرروا بأنفسهم ما يريدون تحقيقه.
فضلا عن ذلك فالجمهورية فرض لأجندة سياسية يمنية عربية وفي مقدمتها المصالح المرتبطة بها من الأمن الخارجي،والتنمية الإقتصادية،والإجتماعية،واحترام الحد الأدنى من سلطة القانون،وتأهيل الأجيال الجديدة والوفاء بإلتزامات الدولة الأساسية،وتأمين الخدمات العامة،وبالتالي العمل على تخفيف الضغوط الداخلية والخارجية معا على النظام والدولة الجمهورية.
ثانيا:في الإستراتيجية:
----------------------------
إن استراتيجية"الجمهورية"كفكرة ومفهوم ودولة ووظيفة ونظام،قد اختصرت اجندات ثلاث:
الأولى:الوحدة،أي استعادة وحدة الوطن السياسية والشخصية،الوحدة التي ترمي إلى تغيير معادلات القوة الإقليمية،وتوسيع هامش السيادة،واستقلال القرار ونحر المستعمر .
والثانية: الحرية التي تعني اسقاط نظام العنصرية وحكم الاليغارشيا الإمامي،المتسلط،والإستعماري،واستعادة لسلطة الشعب ومن يمثله.
والثالثة: التنوير،إذ الجمهورية كفكرة هي فكرة في معركة التنوير نفسها،أي تغيير وعي الجمهور ونمط تفكيرهم،ولذا كانت تحريرا وتوحيدا وتنويرا معا.
تحرير من خلال تغير علاقات السلطة وشروط حياة الناس،وأحوالهم المادية والإجتماعية والسياسية والثقافية. وتنوير من خلال الاستناد إلى العقل والعقلانية وتنظيم اساليب تقنيات الحكم،وانظمتها الحديثة،والتي تمثل المدخل لجميع المعارك الأخرى التنموية والديمقراطية والقانونية،وفي مقدمتها إعادة تشكيل وعي النخبة المثقفة ذاتها.
والتنوير هنا كهدف تأكيد لوحدة الناس في امتلاكهم جميعا وبالتساوي ملكة العقل،ومن ثم قدرتهم على التأهل والإرتقاء بوعيهم وأخلاقياتهم،وهذا هو مبدأ الكونية الذي يشكل أحد المبادئ المؤسسة لثقافة التحرر الأنوارية.كما يعني الإعتراف بالاستعدادات العقلية الواحدة لجميع الناس"=اليمنيين"،وبالتالي عدم الحق في التمييز بينهم بسبب درجة الثقافة أو العلم،فهم جميعا قادرون على إدراك القيم الإنسانية وتمثلها إذا حسن تعليمهم،حسب فكرة غليون مع التحوير مني.
فالإعتراف بالمساواة يعني الإشتراك في ملكة العقل،وهي التي ولدت(بالتشديد ) فكرة السلطة المنبثقة من الشعب،أي الناس لأنهم جميعا عقلاء،وقادرين على الإحتكام للعقل،وايصال المجتمع بفضله إلى الخلاص الدنيوي،أي السلام ووقف النزاعات،حسب قراءة غليون.
وما ضرب قاعدة الإحتكار،أو الإمتياز المنبثق من فكرة الجمهورية دولة ونظاما وسياسة،والمكرس من قبل أي سلطة أو فرد أو جماعة وأسرة،سواء كان احتكارا للسلطة السياسية أو للسلطة الإقتصادية أو للسلطة المعرفية؛فالمواقع كلها مفتوحة للتنافس الحر والمسئول،وجميع النشاطات مشاعة للجميع،لا فرق بين غني وفقير،جاهل ومتعلم،أي حصل هنا تعميم لنظام السوق،-كما يذهب لذلك غليون-،على جميع الأنشطة الإجتماعية والسياسية والإقتصادية،أو هي حولها بالأساس،التنافس الحر على مواقع السلطة العمومية والمناصب والدرجات العلمية،وكذلك الآداب والفنون والعلاقات العامة والإجتماعية.
ولذا أصبحت الجمهورية بمثابة المرجعية الثقافية العامة،أي تحديد أية قاعدة رمزية تستند عليها الدولة-الأمة،في اضفاء الشرعية والمعاني الشعورية على مفاهيم العدالة والحرية والمساواة وغيرها.فالجمهورية كنظام سياسي-اجتماعي أتت لمنع احتكار التداول في الثروة والسلطة الذي جعلها حكرا على فئات وطبقة بعينها ثابتة لا تتغير،وهذا هو منطلق الثورة السياسية ومنطقها،الذي هو تهديم للألقاب والكيانات الطبقية الثابتة والموروثة،وتسوية الناس مع فرص السعي إلى النفوذ وإلى السلطة والثروة والتعليم والمعرفة،مما يشكل أساس مفهومي الحرية والمساواة ومصدر صدقيتهما في آن معا،حسب فكرة برهان غليون المعتبرة.
ملحوظة: سنستكمل الورقة أو المقالة في حلقة أو حلقتين متتابعة وتحت العنوان نفسه.