من خلال استقراء الاحداث يمكننا ادراك أن الجلاء النهائي للمستعمر البريطاني لم يكن حدثاً منقطعاً عما سواه من أحداث تلك الفترة، لكنه مثل نتيجة لمرحلة طويلة من النضال والكفاح شملت اليمن بشطريه يومئذ، ولم يكن اليمنيون من مختلف جهات الوطن ومخالفه يومها بعيدين عن أبجديات هذا النضال الممتد مابين عدن وتعز والضالع وابين وصنعاء، بل كانوا محركيه وسادته وحماته.
في مثل هذا اليوم الأغر كان اليمنيون يسدلون الستار على أكثر من قرن من الاحتلال الأجنبي، وفيه كانت نضالات اليمنيين الممتدة تتوج بمشهد أخر جندي بريطاني يحمل عصاه ويرحل، لترحل معه أوجاع تلك الفترة العصيبة التي حُرم فيها اليمنيون من السيادة على أرضهم وقرارهم.
رحلت المملكة التي لا تغيب عنها الشمس معترفة ومؤمنة أن الشعب اليمني ماعاد لقمة سائغة بيدها، وأن عدن حاضرة النضال لم تعد ترحب بوجودها، وأن البسطاء الذين كانوا يبحثون عن لقمة العيش في ميناء هذه المدينة تحولوا إلى أسوداً حين دعاهم داعي النضال، وأذاقوا المستعمر مرارة الكأس وشدة البأس.
المؤكد أن ذكرى جلاء آخر مستعمر بريطاني وإعلان الاستقلال الكامل لشطر اليمن الجنوبي معلماً ومورداً تتعلم منه الأجيال أن الشعوب حين تطلب حريتها لا يوقفها حد، ولا تتنازل عن مطالبها حين تصبح المسالة متعلقة بسيادتها على أرضها، وأن المستعمر مهما أقام فإن للأرض أهلاً سيجعلون رحيله منها حقيقة مؤلمة، وسيقدمون لأجل ذلك التضحيات، وهذا ما حصل مع اليمنيين في الرابع عشر من أكتوبر عام 1963م، وكانت نتيجته الحتمية إعلان الاستقلال التام، ورحيل أخر جندي بريطاني في مثل هذه اليوم .
تشكل السنوات التي عاشها اليمنيون بين اطلاق الشرارة الأولى ويوم الجلاء مدرسة نضالية قدم فيها الشرفاء أرواحهم رخيصة لأجل تحرير الأرض من المستعمر، وعانى الشعب كله كثيراً خلال هذه السنوات لأجل الوصول لهذا اليوم المجيد ، ومن أجل ان تنمو وتزهر شجرة الحرية كان لزاما ان يسقيها الشرفاء الاحرار بدمائهم الزكية ، وهذا ما حصل طوال سنوات النضال ضد الاستعمار البريطاني في الجنوب وضد الكهنوت الامامي المستبد في الشمال ، وكانت النتيجة وطناً حراً يحتوي اليمنيين من كل جهات الوطن الأربع .
ونحن نعيش ذكرى الاستقلال الكامل لشعبنا في الجنوب لزاماً أن نتذكر أن السيادة الوطنية والتحرر من المتحكمين بمصير الشعب والأرض هما ما يجب ان نركز على توطيده اليوم ونحن نناضل لاستعادة الوطن من أيدي الانقلاب، ولزاما كذلكً أن نتعلم من تاريخنا الحافل بروح الانجاز الثوري أن الثورات لا يكفي تحقيقها، لكن ينبغي حمايتها من المتسللين لواذاً، والمتسلقين من خلف الجُدُر، ودعاة الوطنية الذين يعلوا صوتهم حين نحتفل بالنصر، وكانوا قبله قابعين في غياهب الانبطاح متمرغين بذل الاستكانة ولابسين رداء الخذلان ، وما نحتاجه اليوم هو إعادة تقييم الخطاب الوطني وتحويله نحو النموذج الجامع الذي يجمع ولا يفرق .
دمتم سالمين .