عندما قررت مليشيا الحوثي الاستيلاء على مستحقات الموظفين عام 2016، وامتنعت عن صرفها لأصحابها بذريعة "عدم وجود سيولة، كانت قد سخرتها وحولتها ومعها كل مقدرات الدولة لتغطية نفقاتها الخاصة وتمويل حروبها العبثية ومحاولاتها لتحقيق مشروع داعميها الإيرانيين في اليمن والمنطقة.
لم يكن الموظفون في مناطق سيطرتها يعتقدون، أن راتب منتصف ذلك العام، سيكون الأخير، ليبدأ العديد منهم البحث عن مصادر أخرى للعيش، إلى حين صرف المرتبات والتي أمست مع الأيام حلما بعيد المنال، وأصبحت حياة الموظفين بدونها، قصصاً يومية وروايات حبلى بالكثير من الألم والحزن والقهر الممزوج بشظف العيش والمرارة، ومحاولات مستميتة للبقاء على قيد الحياة.
في هذا التقرير يستعرض الصحوة نت جوانب من قصص ومعاناة موظفين حرموا من حقوقهم، وسلبتهم المليشيا حياتهم
أذلة في وطننا
الأستاذ جمال (45 عاما)، خدم في مجال التعليم منذ 13 عاماً، وعندما قطعت مليشيا الحوثي راتبه، قرر البحث عن عمل يعيل به أسرته، ولم تكن أمامه الكثير من الخيارات، وجد المعلم نفسه يعمل "مساعد بناء"، ينقل الأحجار والطين والإسمنت على كتفه، ليعود آخر النهار إلى بيته ملطخ الثياب ومنتفش الشعر ومنهار القوى أيضا، وليس في جيبه الكثير.
ينظر إليه أطفاله باستغراب، فهم قد اعتادوا دخوله إلى المنزل بالبدلة الرسمية حاملاً معه الحلويات (الجعالة) والفاكهة مكتمل الأناقة والهندام، واليوم يرونه شخصا آخر تماما.
يقول الأستاذ جمال لـ"للصحوة نت"، إن "العمل ليس عيباً، مهما كان العمل، ولكن شهاداتي الجامعية ومؤهلاتي كان من المفترض أن يؤمنا لي حياة أقل تعباً وأكثر دخلاً من حياة الحمالين والعمال، والمشكلة أن أطفالي اعتادوا مستوى معيشي معيناً، ومن الصعب علي أن أوفر لهم الآن ما كنت أستطيع توفيره في السابق".
يعيش المعلم جمال في بيت إيجار مع أولاده الأربعة، أكبرهم في التاسعة من العمر، ولم يعد يتذكر آخر مرة استلم فيها والده راتبا كاملا.
يؤكد مدرس مادة الجغرافيا، أن دفع الإيجار هو الكابوس الأكبر في حياته، إلى جانب قيمة الأدوية؛ لأن ما يجنيه من عمله الشاق بالكاد يكفي للطعام والشراب.
يتابع: "دخلي ليس ثابتاً فأنا أعمل أسبوعا، واجلس في البيت أسبوعاً بحسب توفر العمل، وهذا يجعلني أقلق بشدة على مصروف اليوم القادم، أما في المناسبات والأعياد لا أستطيع توفير ملابس العيد والحلويات أو مستلزمات رمضان مثلا، ونعيشها كأيام عادية على أمل عودة الرواتب يوما ما أو نهاية الانقلاب، لكي نستعيد مكانتنا كمعلمين بعد أن أهنتنا المليشيا، وجعلتنا أذلة في وطننا".
وجبة واحدة
ولم يجد ( و. س) وهو مدير إدارة في وزارة الأشغال، عملا يغطي به احتياجات أسرته، لذلك اضطر إلى الاستدانة من بعض أقربائه لشراء مركبة نقل صغيرة (دباب) والبحث كل يوم عن زبائن في الأسواق وأبواب محلات الأثاث.
وبالنسبة إلى سنة (55 عاما)، يعد هذا العمل شاقاً ومنهكاً وهو مع ذلك لا يفي باحتياجات الأسرة إلا بالكثير من التقشف؛ ولذلك قرر الاكتفاء بوجبة واحدة في اليوم وهي وجبة الغداء.
يقول للصحوة نت، إنه "بعض أيام الأسبوع نؤخر وجبة الإفطار إلى الـ12 ظهراً لكي تكون وجبة إفطار وغداء مع بعض، ونظل بدون طعام حتى اليوم الثاني، قد يبدو لك كلامي غريبا، ولكن هذه هي الحقيقة، لقد كنت مدير إدارة واليوم هذا هو حالي لأني بدون راتب منذ سبع سنوات وأحاول البقاء على قيد الحياة أنا وعائلتي".
دولار واحد في اليوم
فؤاد البالغ من العمر 34 عاماً، أفضل حالنا ممن تحدثنا إليهم، فهو يعيش في منزل ورثه عن والده، وليس بحاجة إلى دفع إيجار، إلا أن الحال لا يختلف كثيرا عن أمثاله الموظفين، الذين وجدوا أنفسهم بلا مصدر دخل فجأة مع ما عليهم من التزامات ومسؤوليات تجاه أنفسهم وعائلاتهم.
يقول فؤاد لـ"الصحوة نت"، والحسرة واضحة في حديثه "كانوا يقولون شبر مع الدولة ولا ذراع مع القبيلي" لذلك فرحنا عندما حصلنا على وظيفة حكومية، وقلنا إن هذه الوظيفة دخلها مستمراً حتى بعد التقاعد والموت.
واستدرك "لم نكن نعلم أن جماعة الكهف ستأتي وسينهار كل شيء بلمح البصر، وسيأخذون رواتبنا ويتصدقون علينا كل ثلاثة أشهر بنصف راتب، في حين أن أصغر مشرف يعادل مصروفه اليومي مجموع رواتبي لمدة نصف عام.
وتابع: "صحيح أن بيتي ملك، ولكن أطفالي بحاجة إلى غذاء ودواء وملابس لذلك، فأنا أعمل فوق باص صغير استأجرته من جاري مقابل ثلاثة آلاف ريال في اليوم وهو تقريبا كل ما أستطيع جمعه في اليوم؛ لأن الشغل بارد والناس فقيرة والباصات كثير ومعظم الأيام أعود إلى أطفالي ب 500 ريال لا غير، ومن هذا المبلغ القليل جدا نأكل، ونشرب طوال اليوم".
ضربة قاصمة
وتتذكر "رحمة" (عاما 35) بالدموع كيف كانت أحوالها المادية قبل نكبة 21 سبتمبر، والآن تحاول جاهدة توفير وجبة طعام لأطفالها الثلاثة؛ بسبب انقطاع راتبها الذي كان يمثل شريان الحياة بالنسبة لعائلتها.
تقول رحمة لـ"الصحوة نت"،" أجد صعوبة شديدة في توفير إيجار المنزل والطعام والشراب والدواء لأطفالي إضافة للمتطلبات الأخرى، لقد مثل انقطاع الراتب ضربة قاصمة لي فأنا امرأة مطلقة ووحيدة، ولم يكن لدي غير الراتب لأعيش به".
وتضيف رحمة التي تعمل موظفة في "الكنترول المركزي" التابع للتربية والتعليم: "في البداية ظننت أن الأمر لن يطول كثيرا، ولكن مع مرور الشهور قررت البحث عن مصدر رزق إضافي، فتعلمت الخياطة والتطريز، وبدأت بخياطة ملابس الأطفال والحقائب المدرسية، وبمرور الوقت صار عندي زبائن لا بأس بهم، ولكن ما أحصل عليه قليل جدا مقارنة بالالتزامات التي علي، إضافة إلى التعب والإرهاق والمشاكل التي أصبحت أعاني منها في منطقة الظهر؛ بسبب الجلوس الطويل، ولكن ليس أمامي حل آخر إذا أردت البقاء حية أنا وأطفالي".
وختمت كلامها بالتأكيد أن "على سلطات الحوثيين أن تلتفت إلى معاناة اليمنيين أولا قبل أن تهتم بمشاكل فلسطين فأهل الدار أولى بالمعروف، أنتم قادرون على صرف الرواتب، ولكنكم تأكلونها وتتهمون غيركم، وتحاولون إغفالنا بموضوع غزة، قلوبنا مع أهل غزة، ولكن الذي ما فيه خير لأهله ما فيه خير للناس".
أزمة مفتعلة
ويعتمد 1.3 مليون موظف حكومي في اليمن، على الراتب كمصدر أساسي للعيش لهم ولعائلاتهم، ويعتبر انقطاع هذا المصدر بمثابة الحكم بالإعدام والموت البطيء لملايين الأسر التي لا تملك مصدرا آخر لتوفير الطعام.
وكشف تقرير صادر عن "البنك الدولي" في مارس 2023، أن انقطاع المرتبات جعل الأسر اليمنية تعاني تفشي انعدام الأمن الغذائي والتخلي عن الرعاية الصحية إلا في أشد الحالات حيث صارت الأولوية في تناول الطعام، كذلك تسبب انقطاع الرواتب لمدة تسع سنوات في إلغاء مجانية بعض الخدمات الطبية والتعليمية، وأصبح هناك رسوما مفروضة عليها.
إيرادات ضخمة
وقال مصدر في وزارة المالية الخاضعة لمليشيا الحوثي لـ"الصحوة نت"، إن دخل الضرائب والاتصالات بدون الجمارك يبلغ 220 مليون دولار شهريا، في حين يتطلب صرف الرواتب للقطاع التعليمي نحو 200 مليون دولار.
وأضاف شريطة عدم كشف هويته لدواعي أمنية، "أن المليشيا افتعلت أزمة الرواتب، وهي قادرة على صرف معاشات الموظفين في الشمال والجنوب من الإيرادات التي تجنيها، دون الحاجة إلى المساعدات أو المنح".
ويشهد اليمن أزمة إنسانية هي الأسوأ في التاريخ بحسب تصنيف الأمم المتحدة حيث يعيش أكثر من 80% من السكان تحت خط الفقر وغالبية الأهالي تعتمد على المساعدات الإغاثية في ظل انقطاع الرواتب ولا وجود لأمل يلوح في الأفق في ظل إصرار المليشيا على تسخير كل مقدرات الدولة لصالح مشروعها الطائفي ومصالح داعميها الإيرانيين.