إذا كانت الوطنية شعور وسلوك وتطلع-حسب عبدالله العروي-؛فثورتي ٢٦سبتمبر و١٤ اكتوبر،تجسيد حقيقي للوطنية اليمنية المعاصرة والحديثة، فالشعور بما هو اعتزاز بالذات والأجداد، أو السير على منوالهم، والإقتداء بهم، والسلوك بوصفه إيثارا وتضحية، والتطلع بما هو طلب الحرية والتقدم والرفاهية. فالثورتان من اعطت مضمون الوطنية معناه ومبناه؛حيث كونته تيارا وحركة وقوة وحزبا،أو احزابا من ثم،دولة ومجتمعا. حيث لم يكن كل ذلك واضحا ومرئيا وملموسا في تاريخ اليمن المعاصر والحديث، قبل الثورتين.
إذ الوطنية (شعور فردي وحركة اجتماعية وأيدلوجيا سياسية،وقد نشأت من كل هذه الوجوه)حسب العروي. فالثورتان هي من حولت الوطنية من حركة إلى نظام وحزب،أو احزاب،إذ الوطنية والمقاومة-الناشئة في جبال ردفان،قبل ستون عاما -أو مثلث الضالع ردفان لحج-ليستا حركتان مختلفتان،بل موحدتا النظرة،العوامل والأسباب،المغزى والهدف،مع ثورة ٢٦ سبتمبر،فأصبحت الوطنية والمقاومة ،ثورة اكتوبرية تتزر وتشتد ويقوى بأسها بالثورة الأم ٢٦ سبتمبر.
إذ أنها تعبير وتجسيد حقيقي للإستمرارية التاريخية،والتتابع والديمومة المستمرة؛فالخلاف الأساسي والمحوري بين الوطنيين ونظامي الإمامة والمستعمر وانصارهما،كان بالضبط حول تاريخ اليمن وجغرافيته،أي حول الإنقسام والتجزئ والتشطير الذي استرعتاه الإمامة والمستعمر على حد سواء.
فالحركة الوطنية التي خلقت ثورة ٢٦ سبتمبر أو عبرها،وأسقطت من ثم الإمامة مفهوما ونظاما وعلاقات،لم تنكمش على ذاتها أو تقوقعت حيث تقسيمة الإمامة/المستعمر،بل تمددت وتوسعت وتبلورت إلى حركة أوسع وأشمل وأكمل،فخلفت تهديدا مباشرا لثنائية نظام الإمامة="المستعمر"،إذ الإمامة والمستعمر وجهان لعملة واحدة،حيث وجدت الإمامة وجد المستعمر،وحيث وجد المستعمر وجدت الإمامة،هكذا هي جدلية وديالكتيك التاريخ،كل ما ارتدت اليمن إلى الإنقسام والتجزئ،كلما اطلت الإمامة برأسها من جديد،وعاد المستعمر،وفقدت اليمن حريتها واستقلالها. فكانت استراتيجية الثورة"=فعل الثورتين"،هي في الأساس والعمق لمواجهة هذه الأخطار المحدقة والمباشرة،والتهديدات الوجودية للشعب وماهيته،كينونته وجغرافيته،وتاريخه.
فالحركة الوطنية تابعة للمجتمع الذي بلور الثورة،وكانت استراتيجية لديه،وكل نظام تابع لحزب أو احزاب،تابع للحركة الوطنية نفسها،أي لاستراتيجية ثورتي ٢٦ و١٤ وآفاقهما المفتوحة،ومفهومها المجترحين معا.فالثورتان هما من انقذت المجتمع من التفكك والإندثار،أو ما يسمى "الموت التاريخي".
فالثورتان أضحت رمزا لتجسيد الوحدة الوطنية في المجتمع،كما أضحت لتعاضد وحدتي التجانس والتمايز في آن معا، إذ الغلو في التجانس يؤدي إلى النزوع ناحية وتجاه التمايز،دون أن يصل كل منهما إلى حد الإفتراق،إذ أن ذلك يعني"تغير في معنى التجسيد"حسب عبارة العروي،وهذا ما نلاحظه في نظامي ما بعد ثورتي ٢٦و١٤،إذ كان النظامان السياسيان دائما مجسدا لمعنى التجانس والتمايز معا،وهذا ما يعني أنه لا بد من محطة ثالثة،تضع راهنيتهما فيها،هذه اللحظة/المحطة،هي محطة الجمهورية اليمنية90م.
فالوطنية هنا أصبحت أيدلوجية ،تعبير بالمفاهيم والألفاظ،استحضارا وتنميطا لمسار تاريخي متميز،فالجمهورية اليمنية تاريخ وطني مترسخ في الوجدان،ومقوما له معا،إذ هي وطنية واعية بجذورها ومكوناتها التاريخية،التي امتزج فيها المكشوف والمستور،الواقعي والوهمي،حسب فكرة وتعبير عبدالله العروي،أي أصبحت للوطنية دور في المستقبل كوصي على الماضي،ومتعهد بتبليغه إلى طلائع الأمة اليمنية وأجيالها.
والوطنية هنا علامة قوة،لا دليل ضعف،إذ أن قوتها نابعة من الثورتين،وإدانة لتخلف الواقع،وأن أي ضعف لها فمرده إلى ضعف النخبة الحاكمة،والتي تحاول تشكيل الواقع بعيدا عن ماهيته،ومنطق الثورتين وغاياتهما. إذ يلزم التمييز بين الوطنية هذه بالمعنى التاريخي،والإعتزاز بالهوية،أو الغيرة على الأرض،وإكبار الثقافة أو التشبث بلغة الأجداد.
فالوطني بالمعنى المحدد،الذي يحب شعبه،وبلده،ولغته وثقافته،وما يميز الوطني هذا هو التماهي التام والمتواصل مع تصور معين للماضي،لا يقبل طمسه،أو مزجه واختزاله بطريقه مبتسرة تحد من أفقه ومكانته التي كانت وسبق اجتراحها،ففي ذلك عقوقا،وخيانة،ونكوصا أعمى.
وبهذا فقد أضحت،وطنية النخبة بالضد من وطنية الشعب،وطنية النخبة دون وأقل من وطنية الأمة ودون وطنية الدولة،إذ هي نخبة إنقسامية إنهزامية لا تعرف ابجديات الثورتين وليست في ومن صيرورتهما.
والأنكى أنها نخبة ليست من صميم الحركة الوطنية وعمق انتماءاتها واتساع دائرتها،تلك الحركة الوطنية التي جددت الوطن مفهوما وسلوكا،وممارسة ورؤية،وحررته من تبعية الأجنبي،وبراثن تقسيماته،وفوق هذا وذاك انقذت الوطن وأدخلته في حلة "التاريخ الوطني"البهي.
في استراتيجية الثورتين"ترابط حياة"
-----------------------------------------
إن الجغرافيا هي المعادل الموضوعي للتاريخ_بول ريكور_،إذ مصير الفضاء"=المكان" مرتبط بمصير الزمان،أو ما يسميه كانط"الحاسة المتعالية"،أي ان هناك ترابط حياة حسب ديلتاي،بين الفضاء=المكان،والزمان=الثورتان. إذ الثورتان تعبيرا واختزالا ل (آيدلوجيا إنقلابية)،إنقلابية على الإختزال والتسطيح،والإبتسار،والإسقاط المسف،إنقلابية على التجزئ والتشرذم،والإنقسام،على المستعمر الداخلي والخارجي معا،وبالتالي اندغام كامل وتداخل على مستوى الفضاء المكاني والزماني في الثورتين،الجغرافيا والديمغرافيا،وأضحت ايدلوجية الثورة تسري في الجسم السياسي والفيزيائي اليمني كله.
فأيدلوجية الثورة تنضح بواحدية الهوية ومركزية الأنا فيهما،واحدية الإتجاه والتوجه،واحدية الألم والأمل في آن معا.إذ أن محرك التطور الإجتماعي هو الوعي الجماعي الحاد بضرورة الثورة،وسيادة الروح الجماعي هو الذي مزق الإنقسام والإستعمارين الداخلي والخارجي في آن،علاوة على كونه أعطى الهوية لمعنى[الإستقلال التاريخي للذات]حسب تعبير غرامشي،حيث ساد جدل الزوجين"الوعي والغريزة"حسب قول العروي في قراءته لابن خلدون وميكافللي.
فالحرية ترتبط بالوحدة،وحدة الفكر والممارسة والإرادة،والنزعة الجماعية للتحرر والتوحد،وإزالة لكل اسباب الإنقسام وواقعه المشئوم. فواحدية الأيدلوجيا الثورية هنا تعبيرا عن ميكانيزمات الثورتين،وصولا للتوحيد الأعمق الموضوعي والذاتي معا،والذي يتحقق بواسطة الشكل المعبر عن تجربة الزمان-حسب العروي-،أو ما يسميه هيقل[حضور الغاية في السبب].
هذه الأيدلوجيا التحررية أفصحت عن أيدلوجيا سياسية ذات عائدات مجزية على( الصعيدين الرمزي والمادي،وعلى صعيد تنمية توازن القوة الفكري والإجتماعي الداخلي)حسب عبدالإله بلقزيز. وها هي اليوم مدعوة لتستثمر هذا الرصيد التاريخي الوضاء،ضد خصمها الفكري والميلاشوي،والذي يريد الإطاحة بكل هذا الإنجاز،والإستحقاق،والمجد.
فضرورة الدفاع عن الوحدة الوطنية،وحدة الأرض من التجزئة والإنقسام والصراع الأهلي،الذي كانت ولا تزال تستدعيه الإمامية بنسختها الجديدة،والمستعمر على حد سواء،هو بالأساس ربط لحياتنا بحياة الثورتين ومعناهما وغاياتهما،أي تلازم الفعل بالمعنى الإجتماعي والسياسي والتاريخي.فالدور الإستنهاضي الذي تستدعيه الثورتين كامن في أوجه عدة:
فمن المساهمة في تجديد الوعي الذاتي،أو الوعي بالذات،مرورا بالمسألة الوطنية،أي بعدها المركزي والاستراتيجي للثورتين=الجمهورية اليمنية،وصولا إلى المساهمة في معركة التحرر الوطني ونيل الإستقلال،واخيرا المساهمة في تصويب العلاقات بين مختلف اجزاء الفضاء المكاني"الجغرافي=اليمني"،والزماني=الحدث التاريخي=الثورتين،واليمن كدولة وعلاقاتها بالمحيط والأشياء.إذ ظل النظامان السياسيان،شمالا وجنوبا،فاقدا للشرعية،في نظر الثورتين،حتى لو اعتطهما شرعية ثورية هنا وهناك،فقد ظلت شرعية منقوصة،ومشروطة،إذ على النظامين أن يتجها نحو الوحدة،وظلت الثورة تساءلهما،وتقدح في اساسهما معا.إذ لا يمكنهما إدعاء امتلاك الشرعية الوطنية ما داما،عاملا تجزئة وإنقسام،أي لقد ظلا-اي النظامين-في أزمة عميقة ما لم تتأسس الجمهورية اليمنية،وعلى اساس واحدية البدايات ،وواحدية الغاية والمصير.
فالجمهورية اليمنية هي الكينونة للزمان والمكان،للثورتين،وبهذا فقد تحققت الشرعية الثورية والدستورية والوطنية والتاريخية،وفي ظلها فقط.أي دخلت الجمهورية اليمنية في ظل الديمقراطية،عهد الشرعية الكاملة والعينية.ولهذا فقد أضحت أيدلوجية للدولة والمجتمع،أو ما يسميه غرامشي"الهيمنة"بالمعنى الثقافي والكلي والتاريخي.
وعليه تكون القوة المتجسدة من رحم الثورتين مرتبطة باليمن التاريخي=الجمهورية اليمنية،إذ الثورة توحيد إرادات القوة وتجميعها،والجمهورية اليمنية هي من جعلت منه تاريخا ومجدا،وما إرادة الإنتماء والعيش المشترك الا انعكاس لفكرة الثورتين بوصفهما استفتاء تاريخيا،وعظمة يمانية يجب البناء عليها،بوصفها إنجازا،واستحقاقا،وإرثا،وأفقا استراتيجيا على المدى الطويل.