هناك عوامل أخرى يغلب عليها الطابع السياسي والمصالح المترتبة عليه، حيث ارتفعت الآمال لدى الشعب منذ الهدنة بوقف الحرب، وتحقيق انفراجه سياسية واقتصادية للعودة إلى الحياة الطبيعية، لكنهم تفاجأوا بالعرقلة الحوثية وتصلبه الناتج عن عقيدته الشيعية القائمة على فكرة الخروج والتقية (استمراء الكذب والمراوغة).
هذا جعل كثير من المواطنين ينظرون أن ميلشيات الحوثي تسعى باستراتيجية استنزاف هائلة في الحرب وغلاء الأسعار والبطالة، بينما يرون الحوثي وقياداته يحتكرون أهم القطاعات الاقتصادية المدرة للربح مثل تجارة الوقود الذي من خلاله فرض الحوثي نمطا اقتصاديا معينا قسرا على المجتمع كله حتى في مسألة غاز الطبخ.
وأدى فتح الموانئ والمطارات إلى استفادة الحوثي وحده، دون الشعب، جعله ينظر إليه على أن مؤجج للحرب وسبب مباشر في هوان الناس وصعوبة معيشتهم وانسداد الأفق أمامهم. كما شعر المجتمع أن الحوثي يمزق النسيج الاجتماعي والوحدة الوطنية والمستقبل ومكتسبات الشعب اليمني طيلة قرن من النضال، فصار بنظره هو الخصم.
اليمن دولة مركبة ومعقدة وتتعدد فيها الوحدات وتمنح الصلاحيات، وقائمة على عدة أعمدة تاريخيا، وحين حاول صالح هدم جميع الأعمدة التي طورتها الحركة الوطنية منذ بداية القرن العشرين، حتى 2011 انهار عموده وسقط، ويسير الحوثي بطريقة أبشع بكثير مما سارت عليه الأنظمة الجمهورية، وقد دمر جميع الأعمدة التي استند عليها من حلفائه كلهم، وبينما كان الحوثي يدمر القوى والأعمدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي كانت يمكن أن تطيل بعمره، وصل الخراب إليه نفسه، وبدأ يتهاوى كغيره.
أدت السيطرة الحوثية على الصرافة والبنوك وشركات الطاقة واستمرار الضرائب ورفعها بوتيرة عالية مع قطع المرتبات إلى إنتاج نصف دورة مالية تصب عائداتها في خزائن الحوثي، إلى موت الأمل تماما بإمكانية إصلاح المليشيا أو حدوث إجراء تغييرات حقيقية في سلوكها المنظور حتى على المدى المنظور على الأقل، في مجتمع كان فقيرا بالأساس زادته المليشيا فقرا على فقره.
جيل من الرافضين للميلشيات
شهدت معظم المحافظات اليمنية خروجا هائلا واحتفالات مستمرة بالقرى والأرياف والمدن ومراكز المديريات، بخروج هائل لجميع شرائح المجتمع لمدة يومين، رغم أن الحوثي يحشد منذ أكثر بكل قياداته بما فيهم سفر الصوفي مدير مكتب عبد الملك الحوثي، وكل أعضاء المجلس السياسي والحكومة وجميع قادة المليشيا العسكريين وفي المناصب الإدارية.
ويعزى هذا الخروج الهائل بالتزامن مع احتفالات الحوثيين الاستعراضية بذكرى النكبة في سيطرتهم وعلى صنعاء، إلى الخروج الكثيف لليمنيين في ثورة فبراير 2011. والتي فتحت آمالا واسعة بالتقدم، وبناء الدولة الجمهورية الديمقراطية بشكل أفضل مما كانت عليه، وخلقت تلك المشاركة مساحة واسعة للعمل السياسي لجميع الفئات والشرائح والطبقات بكل مستوياتها، وجسدت حق الشعب في سلطته وقدرته على اتخاذ القرار وصنع المصير.
ورأى المحلل السياسي عبد الهادي العزعزي "أن الشعب يناضل من أجل جمهوريته ومستقبله أكثر من الدولة، خاصة بعد المصالحة التي تمت في السبعينيات بمشاركة الإماميين وعملوا على عرقلة وإعاقة تحقيق أهداف الثورة، فحمل الشعب النضال على عاتقه بدلا من الدولة منذ سبعينيات القرن الماضي، ووصل ذروته في 2011".
وأضاف: "لم تكن ردة الحوثي وانقلابه إلا دافعا إضافية للاستمرار في العمل الشعبي، ونتج عن هروب وانهيار الدولة إلى غياب رموز قادة الثورة السلمية، فأدى هذا بالشعب إلى صناعة البديل بنفسه، عبر التحركات التي يقودها في المرحلة الحالية".
من جانبه يرى الباحث سليم عبد العزيز "أن المظاهرات المحدودة التي سبقت حالة الاحتجاج، خاصة من فئات اجتماعية لم تشارك في 2011 بكثافة مثل شيوخ القبائل والقطاع البرجوازي من الطبقة الأثرى، ليست سوى تعبيرا عن اعتذار شديد عن عدم مشاركتهم في الثورة السلمية".
إلى ذلك يعتقد الباحث أيمن نبيل "أن الإيمان بالجمهورية الذي ازداد مؤخرا من مختلف شرائح الشعب اليمني، لا مستقبل له إن لم يكن مقرونا بالتقدم إلى الأمام، والنظر إلى المستقبل، والذي شكل إطارا للنضال".
وأضاف "أن الإطار الذي يمكن أن يشكل عامل نجاح للشعب بمختلف قواه وشرائحه وتنوعه هو من جعل ثورة 11 فبراير 2011، ومطالبها بالديمقراطية والأرضية لضمان التقدم، وأن أي توصيف للجمهورية بعيدا عن الديمقراطية التي جعلت الثورة بيئة ملائمة للانطلاق وقابلة للتحقيق لن تقود إلى حل".
ويفسر "العزعزي" الحضور الكثيف للنساء في صنعاء بالاحتجاجات التلقائية بالقول "أن النتائج الاقتصادية المباشرة للحرب مثل غلاء الأسعار والبطالة وإغلاق المؤسسات والتهجير والقتل والخطف وغيرها، أدت إلى تحمل المرأة العبء الأكبر من الألم والتعب والمعاناة".
وأضاف "كما أن مشاركتها الفاعلة في ثورة الشعب السلمية ودورها فيها، جعلت العائلة كلها تخرج في أقرب فرصة، وقد تجلى ذلك مبكرا في رابطة أمهات المختطفين منذ 2015، وفي عدة فعاليات أخرى، لكنها كانت في احتجاجات سبتمبر الماضي أكثر بروزاً".
الشعب يمتلك قراره بالرفض
على مدى السنوات الماضية من سقوط صنعاء بيد الحوثيين المدعومين من إيران، فقدت الجماهير تأثيرها وقوتها التي تراكمت منذ عقود في عهد الجمهورية، مع استمرار الحرب للعام التاسع على التوالي، ومع استمرار الهدنة والمفاوضات وتوقيع اتفاق سلام بين إيران والسعودية والشعور الشعبي بخيبة الأمل، جعل حالة الرفض تخرج للعلن في عدة محافظات.
هذا التحرك ليس سحابة صيف عابرة، خاصة بعد المحادثات الثنائية بين السعودية والحوثيين، أي أن المجتمع أصبح أمام تحد وجودي؛ إما أن يتم الاستسلام للحوثي، وعليه أن يعرف نفسه كملحق بالسلالة أو أن يكون بنفسه طرفا أصيلا في تأكيد حضوره الرافض. فكان لا حل أمامه إلا الشارع، برغم عفوية التظاهرات والهتافات ضد الحوثيين، لكن توقيتها كان قاتلا بالنسبة للحوثي، لأنه أوقف مشروع اجتثاث للجمهورية.
فبدا موقف ميلشيات الحوثي مربكا، إذ تهرب زعيم ميلشيات الحوثي، من قرار إقالة الحكومة الغير معترف بها دوليا، وأعلن عبر قيادات الحوثيين منتحلو صفة مجلس الدفاع الوطني، وهي تخوفات أقل ما يمكن وصفها، شعور (عبد الملك الحوثي) من أن يصبح في حالة مواجهة مباشرة مع الشارع. وهنا يظهر الحوثي كمن يأكل الثوم بفم غيره.
وتصدر مشهد ما سمي بالتغيرات الجذرية القيادات العسكرية الحوثية، المثقلة بتهم ارتكاب جرائم حرب بحق الشعب اليمني، ردوا عليه أيضا وقال بيانهم أنهم "أجازوا قرار حل حكومة الميلشيات (غير معترف بها)"، ولم يدّعوا أنهم أصدروا القرار، وكان واضحاً أنهم يريدون القول ان مهمتهم تنفيذ توجيهات فقط.
ولم يعلق المؤتمر الشعبي العام في صنعاء على قرار الإطاحة بحكومة بن حبتور الشكلية رغم ان غالبيتها من قياداته، وعلى وقع الخروج الشعبي الرافض للحوثيين أصدر بيان أعلن عن رفضه أي مساس بالثوابت الوطنية مثل الجمهورية والديمقراطية، أو بمكتسبات ثورة 26سبتمبر.
انقسام في قيادات الحوثيين
منذ سنة تقريبا كان يتحدث زعيم الميلشيات عبد الملك الحوثي عن تغييرات جذرية، وفي كلمة له في ذكرى سيطرتهم على صنعاء أرجأ اعلان تلك التغيرات إلى احتفالهم بالمولد النبوي، من ربط تلك التغيرات بفعالية طائفية، وربما أراد أن يكون على شخصيته كمرشد أعلى فوق كل السلطات، في تماثل وتطابق مع النظام الإيراني.
ومع استمرار ميلشيات الحوثي خنق المواطنين في مناطق سيطرتها وارتكاب الانتهاكات اليومية، ومصادرة مقومات الحياة، من المتوقع أن تستمر حالة الرفض للميلشيات بأشكال مختلفة، وقد تمتد المواجهات فترة زمنية أطول.
وقال المحلل السياسي عبد الهادي العزعزي "لو امتدت المواجهات فإنها ستفرز فئتين فقط، الشارع المنتفض، والمليشيا وأجنحتها العسكرية. ما سيؤدي إلى تفكك حلفاء العنف مع السلالة من فئات المجتمع اليمني حتى من المهمشين أو الطبقات الفقيرة المهمشة".
انقسام عسكري
هناك مؤشرات على بدء انقسام عسكري حوثي نتيجة تراكم خلافات بين أجنحة الميلشيات وتوسع أكثر مع الهدنة، وظهرت ملامحه في يومي الذكرى، وفق مصادر محلية في صنعاء خلال المظاهرات الاحتفالية بثورة 26 سبتمبر وكانت ميلشيات الحوثي قد جلبت عناصر من ميلشياتها إلى صنعاء من صعدة معقل زعيم الجماعة وهم من المجندين طائفياً.
رغم ضعف هذه المؤشرات عن الانقسامات العسكرية إلا أنها مهمة، وقد تأخذ نسقاً تصاعديا مع حديث الحوثيين عن التغيرات الجذرية والتي قد تستهدف قيادات وأجنحة الميلشيات التي توسعت في نفوذها، ويعزز ذلك مخاوف الحوثيين الذين يحشدون لتأييد تلك التغييرات والتي قد تهدد قوة أجنحة نافذة.
من المتوقع أيضا ارتفاع حدة العداء غير معلن بين الطبقة الوسطى والنخبة الاقتصادية من رأس المال الوطني، وبين مليشيا الحوثي، فالحوثي يواصل السطو على رأس المال الوطني، بتقديم رموز رأس المال كجلادين ومتآمرين وغير وطنيين، يتسببون في معاناة الشارع، في المسألة الاقتصادية، من أجل إيجاد شرخ بين هذه الطبقة كنخبة اقتصادية والطبقة الوسطى المشكلة من كبار الموظفين وأرباب المهن.
وسيكون الضحية الطرفين معا، ما لم يدرك هؤلاء خبث الأهداف الحوثية في مشروع الحوثي المعروف بمراحله الثلاث المعلنة من قبل سيطرتها على صنعاء في "تسوية الأرض، وحراثة الأرض، ثم زراعة جماعتهم وتمكينها"، ومرحلة الزراعة هي الأخطر وهي التي يعمل عليها الحوثي حاليا. وبالتالي حدة المواجهة مع المجتمع وتصاعد وتوسع حالة الرفض.