يواصل الراحل "الواسعي" سرد تفاصيل الأيام الأولى لثورة 26 سبتمبر، وهنا يستعرض دوره في الانضمام إلى صفوف المقاتلين للدفاع عن الثورة الوليدة، حيث قدم نفسه للجيش كمتطوعاً للقتال رغم رفض رفيقه المناضل محمد محمود الزبيري.
وإليكم الجزء الثاني: -
في الحرس الوطني
ثم بدأنا نسمع عن تمرد هنا او هناك وكنا ساعتها نندد بهؤلاء المتمردين ولا يخطر ببالنا ان هنالك اخطاء يرتكبها بعضنا تكون مبررا لهذا التمرد.
وصحيح ان الملكيين بدأوا يتحركون ويصرفون الأموال لشراء الناس، ولكن لو كان الجانب الجمهوري سليما من الاخطاء هل كان أولئك سيجدون مبررا للتمرد ومقاومة الثورة؟
فللأمانة نقول: انها ارتكبت اخطاء بعضها فادحة ولا حاجة الى ضرب الامثال، ولكنا كنا لنقائنا لا يخطر ببالنا ان اخطاء ستصدر منا، بل كنا ننظر الى الثوار وكأنهم ملائكة.
وهنا رأيت ان البقاء على كرسي في وزارة الصحة امر لا يليق بمثلي فالتقيت بالأستاذ الزبيري رحمه الله وشرحت له وجهة نظري وأنه يجب ترك الكرسي والانخراط في الدفاع عن الثورة عسكريا، ولكن الاستاذ الزبيري حاول ان يقنعني بأن الموظف الذي يؤدي عمله بإخلاص هو ايضا يجاهد ويدافع عن الثورة.
ولكنني لم اقتنع بوجهة نظره فذهبت الى قيادة الحرس الوطني وسجلت نفسي، وبدأنا التدريب في (العرضي).
وذات يوم أبلغنا أننا سنسافر الى خولان، فوجدت انني وقعت في ورطة، لم أكن أريد التهرب من السفر، ولكن وجدت ان أخي ايضا قد التحق بالحرس الوطني وسافر صعده ومعنى ذلك ان البيت لن يبقى فيه الا النساء والاطفال وسيحتاجون الى من يحضر لهم الحاجة من السوق.
فحاولت ان اشرح لهادي عيسى الذي كان تولى ابلاغنا امر السفر وهو كان قائد الحرس الوطني، حاولت ان اشرح له ظروفي فأجابني بكلام قاس معناه إنك تريد أن تبقى في احضان زوجتك والشباب يضحون هنا وهناك.
فدهشت اذ وجدت نفسي، فجأة تلميذا صغيرا يتلقى دروس الوطنية من هذا المدعو (هادي عيسى) وسألت نفسي: من هو هذا هادي عيسى الذي لم أعرفه الا هذه الساعة وأنا الوطني والذي عايش القضية الوطنية من سنة 1948 الى ٢٦ سبتمبر (1962) واعرف كل الوطنين.
فمن اين ظهر هذا الهادي عيسى؟ ورأيت ان محاولة افهامه أمر يشق على نفسي اهون منه ان اذهب فورا فاقتل في أي معركة. وقلت: أبمثل هذا يقابل من جاء متطوعا من ذات نفسه لم يسقه أحد ولم يشر عليه أحد.
وفهمت من ساعتها ان الثورة ستبتلى بعناصر يشوهوا سمعتها وأنها ستتعرض لأخطاء من هذا النوع، فما كان الا ان سكت ولم أكلف نفسي اي رد للمذكور وسافرت الى خولان ضمن سرية كان اغلب افرادها من قبيلة عنس.
ووصلنا جحانة، ومن هناك كنا نوزع على بعض القرى (خطاط) وكانوا يقولون نحن طائعون ولكن كما قال المثل (المطيع حمار المفسد)، وكنا بغاية الحذر لأنا نعرف ان قبيلة کخولان قد ترى أنه من الثلم لشرفها ان يراد تطويعهم بحفنة من الشبان الاغرار أمثالنا.
في خولان
وهناك وجدت عبد الخالق الطلوع وقد كان رهينة في حبس القلعة حين سجنا في ثورة 1948، وكان حينها غلاما فاغتنمت فرصة تعليمه وفتح عينيه على ما في العصر، ونقلته من حالة اليمن (سابقاً) الى حالة عصرها.
وهو يعترف الى الآن ويقول في أكثر من مناسبة: لولا هذا لكنت الى اليوم راعي غنم لا افهم شيئا... والحمد لله انني توليت تعليم، مجموعة من الرهائن وأصبحوا اليوم ذوي شأن.
فلما رآني عبد الخالق الطلوع وانا لابس الكاكي لبس الحرب الوطني والبندقية التشيكية على عاتقي عجب!
وكانوا في المناطق الشمالية والشرقية ينظرون الى الحرس الوطني نظرة استهزاء، وقال لي: كنت انتظر إنك ستصبح رئيس جمهورية فأجدك فردا في الحرس الوطني. قلت له: انني لا اهتم بالمناصب قدر اهتمامي بالعمل.
ثم أصر على ان يستضيفني في بيته في السهمان من خولان. فقلت له: ليس الآن وقت ضيافة ولكنه أقسم أقساما مغلظة. فأحرجني فذهبت معه وهناك وجدت في بيته المرحوم عبد المنعم سند وجماعة من اصحابه كان قد استضافهم أيضا.
وجعلوا بعد الغداء يبحثون عن اسماء المناطق ويسجلون في مذكراتهم، ويتكلمون عن ناجي الغادر الذي خدعهم أكثر من مرة. وكانوا قد عقدوا صلحا لمدة اسبوع؛ وانتهى الاسبوع ذلك اليوم ؛ فسمعنا طلقات الدبابات والرشاشات.
وهنا أصبح موقفي حرجا إذ كيف اسمع المعركة على مقربة مني فأعود الى سريتي في جحانة. وإذا ذهبت الى المعركة فكيف اذهب منفردا عن سريتي؟ الا انني صممت على الذهاب الى المعركة مادام سيذهب اناس من معنا في نفس القرية؛ قرية (المصّنعة).
المرجفون
وفي نفس الليلة جاء شخص اسود اللون فاحتفوا به كما يحتفى بالقادم من سفر. فجعل يحدث السامعين بأنه جاء من لدى الحسن وأن كل خولان قد انضمت اليه وأن.... أي أنه صور كما لو كانت الجمهورية ستسقط بعد ساعات. وهنا وجدت نفسي في حرج آخر اذ لو رددت عليه فلابد أن يتطور الامر بيني وبينه الى مالا تحمد عقباه وكيف يكون ذلك وانا ضيف وإذا سكت كيف اسمح بمثل هذا الكلام المخذل.
فاكتفيت ببضعة كلمات هونت فيها مما قاله، حتى لا تترك أثرها على السامعين. وفي الصباح بادرنا الى حيث المعركة في رأس العرقوب المطل على الاعروش بلاد الغادر، وهناك وجدت اصوات طلقات الدبابات تصم الآذان، ووجدت محمد صالح الجبري مع مجموعة من الحرس الوطني كان يقودها فأعلمتهم ليعتبروني ضمن مجموعتهم وعرضنا أنفسنا على القيادة المصرية ليكلفونا بما يشاؤون.
وهناك يعيش الانسان عيشة تقشف حيث كانوا يعطونا الخبز الذي أصبح يحتوي بداخله كتلة من القطن الأخضر (عطب) فكنا نأكله دون أن نهتم بشكله او بطعمه.
وكنا نسكب قصعة الفول على حجرة حيث لا آنية ولا شيء ونأكل من الحجرة! وجاء حسين شرف الكبسي وهو من ضباط الثورة، فعرض نفسه على عبد المنعم سند ولكنه وجد اهمالا وعدم اعتبار فقال: ولماذا جئت الى هنا ولا حاجة لي في غير هذا المكان الا انني ظننت أني أستطيع ان أساهم هنا.
وقرر الانسحاب وقررت الانسحاب معه لاسيما وقد حدث بأذني وجع شديد كان يعاودني بين حين واخر منذ سنوات. وفي الطريق الى صنعاء مررت بجحانة فلقيت ذلك الاسود الذي جعل الدنيا في أعيننا مظلمة في بيت الطلوع وجدته وهو بيد يحيى مصلح ولعله قد خدعه فاظهر له انه جمهوري أكثر منا حيث لمست اهتمام يحيى مصلح به فحاولت إفهام المذكور حقيقة الشخص لكنه لم يهتم بكلامي.
فقلت: ذلك ما علي وقد بلغت ولقيت سريتنا وقد لامني قائدها.
وقال: كيف تذهب بمفردك فقلت: ان الحماس جعلني اتصرف على هذا النحو وهي غلطة. وبالفعل اذ لا يصح ان يتصرف أحد من ذات نفسه في مثل هذه المواقف.
وعدنا الى صنعاء والعودة - اي الاذن بالعودة - والمرور بالسلاح كانت مشكلة احتاجت مني الى قدح الفكر لأتخلص من المأزق وقد نجحت. حضرت الى صنعاء وعدت الى عملي بوزارة الصحة، مع بقاء الاستعداد للذهاب الى اي مكان إذا لزم الامر.