عادة ما تنجز معاهدات سلام، وتنفذ في مجتمعات عانت حروبًا دامية، ودمارًا هائلًا، وانقسامات مجتمعية لا حدود لها؛ لكنها مع ذلك في النهاية تحقق سلامًا وترمم جسدها المنهك وتعالج جروحها الغائرة في فترات متفاوتة بحسب الألم والنزف الذي تعرضت له.
طبيعة الصراعات تنتهي بعملية سلام تقوم على عدالة يرى المتصارعون أنها حققت مطالبهم، وأنصفت مظلومياتهم، وربما تجاوزوا كثيرًا من تلك الحقوق الكيانية الخاصة والمظلوميات الذاتية لصالح المظلومية العامة، والحقوق العامة، كي تؤسس لمستقبل أكثر استقرارًا وأمنًا وضمانة لعدم عودة دورة الصراع الدامية.
في اليمن بالذات الصراع مختلف، والعدو مختلف بشكل جذري وجوهري، لدينا جماعة هنا، اعتدت على دولة وجغرافيا، وتاريخ، وهوية، وظنت أن كل ذلك حق تاريخي لها، وأن الشعب مجرد حشد مقاتل مع سلالة تملكت الدولة والتاريخ والجغرافيا والهوية، صارت هي كل ذلك مرة واحدة، الشعب عبارة عن حشد شغيلة في مزرعة خاصة لا يجوز أن يخرج عنها، حشد خادم لسادة منحدرين من سلالة النبي، وهم من يملكون كل شيء حتى حياة الناس وممتلكاتهم.
إن المساس بهذا المفهوم في أي مفاوضات مع الحوثي يصيبه بقشعريرة وينتهك ذاته المقدسة بحسب ما يتصور.
نحن أمام عدو مختلف تمامًا، يذهب للتفاوض ومصالح الشعب آخر ما يفكر فيه، لدينا عدو يبحث عن أمر آخر، يبحث عن أن يستسلم له الآخرون، ويسلمون له بالتملك، و(المَسيدَة)، بحسب ما يعتقد.
فمالذي قاد الحوثي إلى الرياض إذًا وهو يعرف أنه لن يحصل على ما يريد؟
هناك عوامل كثيرة أكرهت الحوثي على الإذعان لما رفضه قبل عامين، فقد أعلنت السعودية في 2021م نفس الدعوة ورفضها الحوثيون، فمالذي استجد حتى يقبل الحوثيون اليوم ما رفضوه بالأمس؟
أولًا: فُرضت على الحوثي هدنة أوقفت القتال في كافة الجبهات، تكفلت هذه الهدنة بتعرية الحوثي من كل ما يستر عورته في كافة الاستحقاقات سواء تلك التي للناس أو للدولة كمؤسسات، أو للجماعة نفسه والميليشيا التي تقاتل في صفوفه، والبنية التنظيمية للكيان الحوثي ذاته.
ما كنا نتوقع أن تفعل تلك الهدنة في الحوثي كيانيًا وشعبيًا كل ذلك الخدوش والإنهاك الحقيقي، فسنوات الحرب استفاد منها الحوثي أكثر من تضرره، وجاءت الهدنة فهدّت كل تلك الأبنية التي شيدها الحوثي في ثمان سنوات.
كيف فعلت الهدنة ذلك؟
1- أسقطت عن الحوثي حجة الحرب والمجهود الحربي، ووقف عاريًا أمام متطلبات دولة أسقطها (مرتبات الموظفين كافة – خدمات - تفعيل مؤسسات الدولة- أمن- قضاء- تطبيع الحياة) وصار وجهًا لوجه أمام كل ذلك وكان الفشل والفشل الفاضح عنوان المرحلة الأبرز.
2- عرت شعارات الحوثي التي رفعها في العام 2014م ومن خلالها استقطب مناصرين، وأظهرت الهدنة للشعب أن الحوثي لا مشروع له سوى تلك الخرق الخضراء والرنج الأخضر واللمبات الخضراء في ليلة المولد، متوازية مع حملة نهب وجبايات رهيبة باسم المولد.
3- لم يجنح الحوثي أثناء الهدنة لكسب ود الشعب بأي إجراء ذي بال؛ بل ازدادت همجيته، وانتفش أكثر في عمليات نهب وسلب، وسطو، وجبايات وحصر للممتلكات كي يفرض الخمس والضرائب على الناس بمختلف فئاتهم وأنشطتهم، وممتلكاتهم الخاصة التجارية أو ذات النفع الشخصي.
4- تحول كثيرون جدًا من قادة الحوثي ومشرفيه ومسؤوليه إلى أثرياء، يرفلون في النعم ويعيشون في قصور وفلل، وينعمون بترف المعيشة، وذلك ما صدم المقاتل الحوثي الذي عاد من الجبهة أثناء الهدنة ليجد زملاء وقادة و(مجاهدون) وموجهون قد صاروا أهل نعم وترف وأموال وقصور بينما عاش المقاتل في الجبهات لا يعلم شيئا، ولم ينل من ذلك شيء، وبات عليه أن يجد فرصته أيضاً للحصول على ما حصل عليه قادة ومشرفون ومجاهدون.
5- تغير السلوك الشعبي في مناطق سيطرة الحوثي 180درجة، فبعد أن كان يخشى تناول الحوثي بنقد أو يرفع صوته باحتجاج بات اليوم الصوت الشعبي عاليًا، وكان لانتفاضة إب بعد مقتل المكحل وقعها الكبير في كسر حاجز الخوف، أصابت قادة الميليشيا بالرعب، وبات اليمنيون يتندرون بالحوثي ويسخرون منه في مجالسهم وفي مقايلهم، وفي وسائل التواصل الاجتماعي بشكل واسع وملحوظ.
ثانيًا: الاتفاق السعودي الإيراني أسهم بشك كبير في كسر اللهجة الحوثية وسوقها من أنفسها نحو الرياض، فالمصلحة الإيرانية تقتضي كسر قرن الحوثي إن رفض التعاطي بإيجابية مع أي دعوة سعودية للسلام.
ثالثًا: نحن نعرف ويعرف المجتمع الدولي ويعرف اليمنيون ويعرف الجميع أن ميليشيا الحوثي ليست بالقوة التي تمنع اليمنيين من سحقها وتطهير صنعاء منها بغمضة عين، ويعرفون جيدًا أن خيارًا خارجيًا وغطاءً دوليًا، يفرض على الجميع عدم الدخول مع الحوثي في معركة فاصلة حقيقة، فما حدث منذ ثمان سنوات عبارة عن مقاومة ومنع الحوثي من التمدد فقط لا غير، ولو أن المجتمع الدولي سمح باستراتيجية تحرير لانتهى الأمر باكرًا.
إذًا فالتجاوب الحوثي كان هروبًا إلى الأمام لالتقاط الأنفاس، وللحصول على مكاسب فقط، جرعة أدرينالين. لربما تصرف رواتب للموظفين بعدها يعود الحوثي بها وكأنها إنجاز ونصر تحقق، يبتز بها الشعب سنوات جديدة.. كما تخطط سيدته الأولى.
أما عملية السلام المستدام التي يتطلع لها الشعب، واستعادة دولة، ومؤسسات، وتحقيق الأمن والاستقرار وإنصاف المظلومين، وعودة الأمور إلى طبيعتها، فذلك يعده الحوثي، غير مدرج على مشروعه للسلام، فهو عدوان على حقه الإلهي. السلام في مفهوم الحوثي هو أن يستسلم الجميع له، ويعلنون طاعته، ويخضعون لعفوه إن عفا، أو محاكماته إن أمر بذلك، ولذلك قلت من البداية أن التركيبة الحوثية العقدية والفكرية لا يمكن أن يأتي منها سلام، ولو بعد ألف عام.
الرهان الحقيقي
نراهن على إيماننا بقضيتنا، وسواعد مقاتلينا في كل شبر وضعوا فيه أقدامهم الطاهرة، بكل كياناتهم.
نراهن على شعبنا الذي بات الجميع بمن فيهم الحوثي والقوى الدولية الداعمة له، أن الاحتقان الشعبي على شفا الانفجار، وأن الحوثي يعيش أسوأ أزمة على الإطلاق. شعبنا اليمني هو الحصان الرابح الأكثر خطرا في معادلة الصراع مع الحوثي الإمامي، وهو من سيحسم الصراع في عملية وثبة ثورية مفاجئة، مدعوما بقواته المسلحة وأحرار اليمن المتطلعين للحرية والاستقلال والسيادة، والخلاص من الكهنوت الجاثم على صدر اليمن.
نراهن على قيادتنا التي تعرف الحوثي تماما كما نعرفه وربما أكثر، مهما انتقدنا أداءهم، ومهما كانت الاختلالات وكمية الفساد التي تنخر في أجهزة الشرعية، إلا أن المركب الذي يقلنا جميعا، هو اليمن، شعبا وجغرافيا وهوية، وتاريخا، وعقيدة، بل ومصالح، فإن فرطنا في جزء ذهب كل شيء جملة وتفصيلا، وذهبت مصالح الشعب والدولة ومصالحكم معها، نثق في أن الجميع لن يخذل الجميع.
كما نثق في قيادة المملكة العربية السعودية الحكيمة، التي قدمت الكثير، ولازالت داعمة لكل جهود استعادة الشرعية، وإحلال السلام في اليمن، وندرك أن المملكة العربية السعودية باتت أكثر دراية كيف يفكر الحوثيون، وتعرف نواياهم ومراوغاتهم المعهودة، ولن ينطلي ذلك عليهم، وتدرك المملكة أن التعامل مع الحوثيين ومنحهم فرصة لإبداء مصداقيتهم للسلام هي اختبار حقيقي لهم يضعهم أمام خيارات شعبية ودولية صعبة.