كانت حوادث القتل والاغتيالات في شبوة نادرة ومحدودة، ذات طابع جنائي أو مرتبطة بالتنظيمات الإرهابية، حتى عام 2023م، حين قامت عناصر فيما تسمى قوات "دفاع شبوة"، يفترض أنها مسؤولة عن حماية السكينة العامة وتأمين حياة المواطنين، بإعدام وتصفية واغتيال المدير العام لمكتب الصحة في "بيحان" الشيخ عبد الله الباني، بدم بارد، وفي وضح النهار.
الجريمة النكراء التي وقعت في ساحة مصلى المطار، صبيحة عيد الفطر، تركت جرحا غائرا في خاصرة محافظة شبوة، وفي وجدان اليمنيين كلهم، جرحا نازفا لا يندمل، إلا بتحقيق العدالة والقصاص من الجناة ومحاكمة ومحاسبة المحرضين والداعمين، وكل من شارك وساهم في الحادثة المروعة.
وقد استعرضنا في الجزء الأول من التقرير مخطط استهداف شبوة، وتفاصيل الجريمة ومحاولات تمييع القضية، والتأخير غير المبرر من قبل اللجنة المشكلة من المحافظ للتحقيق، وإحالتها للتقرير للبحث الجنائي بدلا عن النيابة العامة، لكن الضغط الشعبي المتواصل أفشل تلك المحاولات.
تصحيح الإجراءات
مع الضغط الشعبي والمجتمعي، ولعب القوى السياسية الوطنية دورا محورياً في متابعة القضية، وجه مجلس القيادة الرئاسي النائب العام للجمهورية بتولي القضية بشكل عاجل، ليكلف القاضي قاهر مصطفى، في الثالث من مايو/أيار رئيس المكتب الفني بمكتبه للتحقيق في قضية مقتل الشيخ الباني.
بعد نحو أسبوع أحال البحث الجنائي ملف القضية للنيابة العامة، لتبدأ رحلة البحث عن العدالة للشهيد الباني، وتمضي الأيام والأسابيع والقضية تراوح مكانها في أروقة النيابة العامة.
ومع كل محاولة لعرقلة سير العدالة، كان الضغط الشعبي حاضرا بقوة، عبر استمرار اعتصام قبائل بيحان للمطالبة بالإنصاف، أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي ضجت بحملات وتظاهرات إلكترونية في كل أسبوع، وصولا إلى أربعينيات الشهيد، ومرور شهرين وأكثر منذ يوم الجريمة.
ومطلع يونيو/حزيران، تعهد رئيس مجلس القيادة الرئاسي بتقديم قتلة الشهيد الباني، إلى المحاكمة لينالوا عقابهم الرادع. جاء ذلك خلال اتصال هاتفي أجراه مع أسرة الشهيد.
أكد الرئيس العليمي للأسرة "سير الإجراءات القانونية لاستكمال ملف قضية الشهيد عبدالله الباني"، حاثا عائلة الفقيد على التجاوب مع تلك الإجراءات المنسقة مع مختلف أجهزة إنفاذ القانون.
استفتاء شعبي
استجابة لطلب القيادة السياسية، وثقة بالوعود والعهود التي قطعتها الرئيس، حددت أسرة الباني التاسع من يونيو/ حزيران الفائت، موعدا لدفن جثمان الشهيد الطاهر.
وفي الموعد احتشد أبناء شبوة ورجال قبائلها من مختلف المديريات إلى بيحان ليشاركوا أسرة الشهيد مراسم التشييع التي تحولت إلى استفتاء شعبي، فاز فيه الفقيد المغدور بشرف الشهادة وحب الناس وتعاطفهم، ونال القتلة والمجرمون ومن شاركهم في التحريض والتغطية، الخزي والعار في الحياة، والعقاب في الآخرة.
عشرات الآلاف صلوا خلف جثمان الفقيد، وطالبوا خلال تشييعه إلى مثواه الأخير، بالعدالة والإنصاف، والانتصار لشبوة وكل أبنائها الأخيار، مؤكدين أن جريمة الاغتيال الآثمة التي طالت الباني لم تزده إلا سمواً، وأن على رئيس مجلس القيادة الرئاسي الوفاء بوعوده بمحاكمة كل الجناة.
وكما قال عضو مجلس القيادة الدكتور عبدالله العليمي باوزير عن "تشييع جثمان شهيد الخير والعيد والمنبر الشيخ الباني"، بأنه "لن يكون نهاية القضية، بل هو بداية لإحقاق الحق والعدالة والسعي نحو تنفيذ القانون لينال المجرمون عقابهم العادل وفقاً للعدالة".
انتصار الباني
محاولات تمييع القضية من الجهات والأطراف التي تقف وراء القتلة، نجحت في عرقلة سير العدالة لأكثر من ثلاثة أشهر، إلا أن الشهيد الباني ورفاقه ممن أصيبوا في الجريمة البشعة، وكل من وقف معهم وساند مطالب العدالة، انتصروا في نهاية الأمر ولو بشكل جزئي.
حيث عقدت محكمة عتق الابتدائية، في 7 أغسطس/آب الفائت، أولى جلساتها محاكمة المتهمين بقتل وتصفية الشيخ عبدالله الباني، بحضور والد الشهيد الحاج عبدالله عبدربه الباني وإخوانه وأبنائه وعدد من المشايخ والوجاهات وأعيان محافظة شبوة وجمع غفير من المواطنين.
في جلسات المحاكمة التي يعد عقدها انتصارا بحد ذاته للباني ونهجه الوطني وحرصه على العدالة ودولة القانون والمؤسسات، تلا ممثل النيابة قرار الاتهام الذي شمل 13 متهما منهم ستة تم إحضارهم إلى قاعة المحكمة، وسبعة فارين من وجه العدالة، والمتهمون جميعهم جنود في اللواء السادس دفاع شبوة، حيث اتهمتهم النيابة العامة بقتل الشيخ الباني والشروع في قتل 8 من المواطنين.
وعرضت في تلك الجلسة والجلسات الأربع الأخرى التي عقدت في الشهر الفائت قائمة الأدلة التي شملت شهادات مفصلة لـ12 شاهدا على الجريمة، وتقارير طبية للشهيد والجرحى، ومحضر معاينة مسرح الجريمة والتي أثبتت تعرض جثة الباني لـ 28 طلقة في أجزاء متفرقة من جسده.
كما عرضت في الجلسات مشاهد مصورة للجناة، وهم يرتكبون الجريمة، وبعدها يحاولون الفرار بسوءتهم، لتتكشف حقائق جديدة، أن قائمة الاتهام اقتصرت فقط على 13 متهما جرى تهريب وإخفاء سبعة منهم من قبل المحرضين وشركاء الجريمة، ما دفع محامي المجني عليهم وأولياء الدم الطعن في قرار النيابة والمطالبة بإدخال كل المتورطين في قرار الاتهام، ومحاكمتهم.
الجناة المعتقلون، هم ذاتهم تعرفوا على بعض شركائهم في الجريمة، أحدهم قريب مدير مكتب الأوقاف والإرشاد في المديرية، فيما كشفت الصور والفيديوهات عن شركاء عرقلوا إسعاف المصابين للحصول على الرعاية الصحية، وشاركوا مع المحرضين ومن يقف خلف الجناة في الجريمة البشعة.
لم ينته الأمر عند ذلك، فمحاولات عرقلة سير العدالة مستمرة، يظهر ذلك جليا على سبيل المثال لا الحصر، تقديم محامي المتهمين في الجلسة الثالثة، منتصف أغسطس، بلاغا من قائد ما تسمى قوات دفاع شبوة، يطلب فيه بإدخال 18 مواطناً في قرار الاتهام، في تدخل سافر في سير المحكمة.
رفض القاضي أحمد القربوع، رئيس الجلسة ذلك البلاغ المزعوم، "كونه بلاغا ملفقا شكلا ومضموناً"، لينتصر الباني مجددا على القتلة وداعميهم، وينتصر معه القانون وأبناء شبوة وكل الحريصين على حقن الدماء واستعادة الدولة.
محاكمة مستعجلة
طالب المتحدث باسم أسرة الشهيد الباني الدكتور محمد شوبان، بأن تكون جلسات المحاكمة مستعجلة وفقا لتوجيهات مجلس القيادة الرئاسي.
ويضيف شوبان لـ"الصحوة نت": "لا شك في أن عقد جلسات محاكمة المتهمين بعد مضي ما يزيد عن مئة يوم على الجريمة مهمة، ومطالبنا هي تحقيق العدالة في كل من له يد في اغتيال الشهيد عبدالله الباني منهم السبعة الفارين من وجه العدالة".
وأوضح أن الأسرة ومعها كل المهتمين والمتابعين لن "يهدأ لنا بال حتى تحقيق العدالة في كل من شارك وأمر بتنفيذ حادثة الاغتيال، ونأمل أن تكون المحاكمة مستعجلة وفقا لتوجيهات رئيس مجلس القيادة الرئاسي".
ويؤكد مدير أوقاف شبوة السابق الدكتور قائد الشريفي، على تلك المطالب، مشيرا إلى وجود جهات "تقف في الطرف النقيض من القضية، وتحاول وأدها في مهدها؛ لأنه ليس من مصلحتهم أن يقدم القتلة للمحاكمة العادلة، سواء كانوا جنودا منفذين، أو من المحرضين أو الداعمين".
ويضيف الشريفي في تصريح لـ"الصحوة نت"، أن "الجريمة مكتملة الأركان وسبقها تحريض على الرموز الدعوية والعلماء، ثم لحقها تحريض خاص على الشهيد وما حصل من تقدم في القضية يعد إيجابيا وانتصارا لدم الشهيد وذويه ومحبيه، لكن وصول بعض المتهمين وغياب آخرين يعد خرقا أمنيا، وتعد صارخاً على القضية".
وأكد المسؤول السابق في أوقاف شبوة أن بعض المتهمين والمتورطين في الجريمة "يسرحون ويمرحون في شبوة على مرأى ومسمع من السلطة المحلية ولجنتها الأمنية"، مطالبا بمواصلة الضغط بكل الوسائل الممكنة حتى تحقيق العدالة للباني، ومحاسبة المتورطين كلهم في الجريمة.
لا حصانة للمتورطين
ما أشار إليه مدير أوقاف شبوة السابق، تؤكده وقائع جلسات المحاكمة، حيث تتوضح الصورة الأكبر للجريمة البشعة التي استهدفت شبوة بكل مكوناتها الاجتماعية قبل أن تستهدف الشيخ الباني كأحد رجالات الإجماع الوطني والحريصين على وحدة الكلمة ورص الصفوف لمواجهة العدو المتربص باليمنيين جميعاً.
والعدالة تتحقق في البداية - كما يعتقد الشريفي ومعه الكثير من أبناء وقبائل شبوة- بإحضار وتسليم السبعة الفارين من وجه العدالة، للمحكمة، ومباشرة التحقيق مع الجهات والشخصيات المتورطة في تهريبهم وإخفائهم وحمياتهم؛ إذ إن المتستر على المجرم شريك في الجريمة، وفق للقانون والدستور النافذ.
ويجب أن تشمل التحقيقات المحرضين على الجريمة والمتورطين بشكل غير مباشر فيها، ممن ما زالوا يشغلون مناصب قيادية في السلطة المحلية، وعلى رأس هؤلاء المتورطين مدير مكتب أوقاف محافظة شبوة، والمستفيدين من الجريمة في بيحان، كما يقول ممثل رئيس مجلس القيادة في مراسم تشييع الشهيد الباني، وزير الأوقاف والإرشاد السابق، وتطالب العديد من المنظمات الحقوقية ورجال القانون وأبناء شبوة.
ويبقى السؤال الذي يحتاج إلى إجابة عملية من محكمة عتق، ومجلس القيادة الرئاسي والحكومة والسلطة المحلية ممثلة بمحافظ شبوة عوض ابن الوزير.. متى تتحقق العدالة، وينال كل الجناة والمتورطين والمحرضين على الجريمة جزاءهم الرادع؟
لتكون العقوبة الرادعة للجناة والمحرضين والشركاء، والعدالة الناجزة للباني ومحبيه، عبرة وعظة لكل من تسول له نفسه استهداف دعاة وعلماء ومشايخ شبوة ورجالها الأخيار، ومن قد تدفعه الحماقة والغرور لتهديد سلم وسلام المحافظة ونسيجها الاجتماعي والوطني.