"كل خُرافة عرقية نازية ما هي إلا محض افتراء"، هكذا كان توصيف الأستاذ محمد اليدومي في مطلع تسعينات القرن الماضي، للحالة السلالية التي كانت تتغذى داخل المجتمع اليمني بعد عقود من الثورة اليمنية المجيدة 26 سبتمبر 1962، كان يدرك أن هذا معترك وطني يجب أن يخوضه اليمنيون لإنهاء خرافة الاصطفاء الإلهي والحق في الحُكم.
وفي منتصف السبعينيات من عُمره، مازال رئيس الهيئة العليا للإصلاح يناضل في ذات الطريق الوطني والذي يمثل حالة إلهام ونضوج سياسيي كبير على الصعيد الوطني، حيث شهد كثير من التحولات الوطنية التاريخية، وهو في سُلم القيادة الحزبية في اليمن منذ البواكير الأولى لتأسيس حزب الإصلاح في 13 سبتمبر 1990، وقبلها كان جزء من الحركة الوطنية الإصلاحية حيث أسس صحيفة الصحوة في عام 1985 كإحدى أهم المنارات السياسية في البلاد.
وانطلاقا مما تعيشه اليمن الآن كان الأستاذ اليدومي، يدرك مخاطر أدلجة الحياة السياسية وتحويلها إلى خرافة تُقسم الناس إلى سادة وعبيد، وواجه بشدة الحالة المائعة التي كانت تدافع عن الإمامين وحالة الخطر الفكري التي يمثلونها على الجمهورية والدولة اليمنية، ولإعادة ترتيب الأولويات قال في مقالة في عام 1991 متسائلاً "إننا في اليمن أبناء وطن واحد وعقيدة واحدة فكيف يكون لبعضنا حق السيادة وبعضنا الآخر حق الذيلية؟! وكيف يكون لبعضنا حق الحكم ويكون على بعضنا الخضوع والاتباع؟!".
ربما هذه الرؤية الثاقبة قبل أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، توضح لنا المسار النضالي الوطني الذي سار عليه الأستاذ اليدومي وجعلته من أهم الشخصيات السياسية الوازنة في اليمن، و قيادة أكبر الأحزاب اليمنية رسوخاً في الساحة الوطنية خلال العقود الماضية، والتي واجهت بقيادة الصلبة كثير من التحديات خلال مراحل تاريخية مختلفة سواء في العمل مع السلطة أو المعارضة.
نشأة صلبة
من خلال نشأة الأستاذ اليدومي في كنف والده القاضي عبدالله في مرحلة تاريخية كانت تشهد التحولات الأولى نحو الجمهورية، ففي 1947ولد في تعز رغم أنه ينحدر من قبائل خولان في صنعاء، وكان لهذا التكوين ربما أثر في حياته السياسية ومسار نضاله الوطني، فهو المتخرج من أكاديمية الشرطة بالقاهرة عام 1973، كانت مصر حينها تشهد انتصاراً عظيما في استعادة سيناء من الاحتلال بما يعرف بنصر أكتوبر.
في فترة دراسته الجامعية في القاهرة كان الغليان العربي في ذروته عقب النكسة وفي تلك الحقبة صُنعت كثير من التحولات السياسية والفكرية في الدول العربية، وكانت اليمن حينها تخرج من حرب مع الامامة بعد حصار السبعين في أواخر عام 1967، وتتجه نحو مسار جديد من المصالحة تحت راية الجمهورية والثورة، تلك الأحداث كان "اليدومي" يعيشها وهو شاب في العشرينات مع عُمرة تتشكل لديه حالة من الوعي السياسي بمجريات الصراع على المستوى الوطني والعربي.
بعد عودته من القاهرة قضى 12 عاماً موظفاً في قطاع الأمن بدولة الجمهورية الوليدة التي مازالت تخطو نحو الاستقرار وتواجهها عقبات كبيرة، في ذات المرحلة درس التاريخ وحصل على شهادة الليسانس من قسم التاريخ في كلية الآداب بجامعة صنعاء، ومن هذا المسار التعليمي والوظيفي بدأت تتضح الرؤية لديه بشكل جعله يخطو نحو مرحلة جديدة معها برز على الساحة الوطنية كامتداد للحركة الإصلاحية في البلاد والتي كانت من أبزر تجليات النضال الجمهوري.
في العام 1985 أسس الأستاذ "اليدومي" صحيفة الصحوة وكانت منبراً سياسياً يتخذ من الفلسفة الإسلامية مبدأ في مناقشة القضايا والمشاكل اليمنية، قبل ذلك بعام كان قد جمّد عمله كموظف في الدولة، واتجه نحو التنوير والاعلام كمرتكز أساسي في صناعة السياسي المقتدر والمدرك لما حوله من تغيرات مجتمعية وحالة تصاعد للأفكار وتجاذباتها التي شكلت بدورها الحالة السياسية في اليمن ككل.
مع تأسيس حزب الإصلاح كان "اليدومي" شاباً في مطلع الاربعينيات من عمره أميناً عاماً مساعدا لحزب الإصلاح، وفي أول مؤتمر حزبي عام 1994 عُين أميناً عاماً، وفي المؤتمر الرابع للحزب في مطلع عام 2007 تم اختياره نائباً لرئيس الهيئة العليا لحزب الإصلاح وكان قد خاض غمار تحولات كبيرة بدء من التأسيس والمشاركة في السلطة ومن ثم العمل في صفوف المعارضة وتأسيس اللقاء المشترك، وفي أواخر عام 2008 كان على رأس هرم قيادة الحزب بعد وفاة الشيخ عبدالله بن حُسين الأحمر، ومازال حتى الآن باعث للحكمة والقوة في الحزب رغم الشتات والحرب.
الفلسفة السياسية والوطنية
وبما أن الأستاذ اليدومي يعد من الجيل الذي نشأ بداية فتوته وشبابه مع الجمهورية والثورة وكان خطر الإمامة ما زال ماثلاً أمامه ويراوده كسياسي ومناضل وطني، لذلك من خلال مقالاته السياسية وترأسه لصحيفة "الصحوة" كان يقدم المقاربات الفلسفية التي ترتكز على منهجية التفكير السياسي الإسلامي مع تصاعد الأفكار الإصلاحية الجديدة وكانت نابعة أيضاً من الهموم الوطنية.
وفي مقال نشر في صحيفة الصحوة، العدد (284) 1991 قال الأستاذ اليدومي "واجبنا أن نقدم الإسلام للبشرية نظيفاً كما نزل من السماء، وعلينا أن نزيل عنه ما لحق به من أدران الجاهلية في عصور التخلف، وما سعى له أصحاب الأهواء ومرضى الذات من محاولات للي عنق قواعده وأسسه تطويعاً لخدمة طموحاتهم، وتسخيراً لتنفيذ مآربهم في الاستعلاء والاستكبار على بقية خلق الله". يتحدث هنا عن اختطاف الدين حيث ربط السلالية بالجاهلية والتخلف والاستعلاء على الناس.
كان حينها يتحدث عن الإمامة وبقاياهم بعد مرور 29 عاماً من ثورة 26 سبتمبر، وقال "إننا في حاجة إلى وقفة جادة ودراسة متفحصة لكل الأسباب التي دفعت وتدفع بالملكيين (الإمامين) في الماضي والحاضر إلى استمرار إصرارهم على ترسيخ الطائفية السياسية فيما بيننا في كل مجالسهم وكتاباتهم وخطبهم وفتاواهم، ورغبتهم في أن يبقى الهادوي هادوياً والشافعي شافعياً، ويقاومون بكل إمكاناتهم أي محاولة تهدف إلى اقتلاع جذور الطائفية السياسية والخلاف المذهبي؟".
ويؤكد اليدومي حينها على المسار الوطني الذي يجب التمسك فيها بناء على الفلسفة الإصلاحية التي تم بناؤها في وقت مبكر، وقال "أن الثورة والجمهورية خيارنا.. ففي ظل الثورة والجمهورية تعلمنا بعد تجهيل، وفهمنا إسلامنا فهماً نقياً بعد غياب للوعي فرض علينا عمداً لسنوات شكلت قروناً من الماضي، وخرجنا منطلقين إلى الحياة بعد أن كنا قابعين مكبلين بقيود التخلف في مغارات الانحطاط". وهذه مبررات قدسية الثورة والجمهورية كما يراها الأستاذ اليدومي.
ورأى على الجرادي رئيس إعلامية الإصلاح "أن للأستاذ اليدومي، سفر طويل وكفاح مرير ضد العنصرية والكهنوت وادعاءات التميز بكل أشكالها، بينما لا يعرف الكثير سوى أنه رئيس حزب التجمع اليمني للإصلاح"، لافتا "أن الأجيال اليمنية التي تفتدي الجمهورية وتكافح العنصرية، كان للأستاذ اليدومي ورفاقه شرف غرس بذرتها ورعايتها منذ عقود، حين كان التعامي عن خطر العنصرية والكهنوت سائدا في مجتمعنا".
قيادي من الطراز الرفيع
عاش الأستاذ اليدومي، في وسط الهموم والتحديات الوطنية منذ بدء مسيرته السياسية وعمل بهدوء وحالة من الانسجام مع الأهداف الوطنية المشتركة، ومن هذا كان من ضمن مؤسسي فكرة التوافق السياسي والاهداف المشتركة لمواجهة التحديات الوطنية ومن هنا تميز كسياسي بارع في صناعة التحالفات وقيادة الحزب الكبير نحو تقليص حالة العداء الأيدلوجية، وإذابتها لصالح الأهداف الوطنية.
ويرى الكاتب جمال انعم "أن الأستاذ اليدومي شخصية قيادية من الطراز الرفيع وهو امتداد للروح الإصلاحية الوطنية منذ بداياتها، ونشأ ونضج داخل المعترك الوطني والمخاضات الصعبة بالنسبة لحركة المعارضة في اليمن، ورغم مهمته القيادية لكنه كان سنداً لنا كإعلاميين وتعلمنا منه الكثير وتتلمذنا على يديه".
وأضاف في حديث لـ"الصحوة نت"، "بالنسبة للفضاء العام يكتسب حضوره من هذا التاريخ الحافل بالعمل الحزبي عموما، وفي تأسيس المشترك برز كقيادي أسهم في صناعة تحول كبير على صعيد المعارضة وتجاوز الماضي والدفع بالإصلاح والاتساق اكثر بالتجربة الديمقراطية، وتبني منظومة حقوق الانسان وإحداث تحولات مواكبة في الإصلاح على الصعيد المنهجي والفكري".
وقال أنعم "كان ومازال من بواعث القوة والحضور الزاخر والكبير داخل الإصلاح بما له من كاريزما وثقل لدى جمهور الإصلاح وحتى على الصعيد الوطني العام وعلاقاته السياسية وفي الفضاء الوطني الواسع، وخلال تجربة المشترك كان اليدومي من القيادات التي دفعوا بهذه التجربة لأن تقوى وتشتد وتتماسك وكان ممن يبدون حماسة كبيرة لهذا التكتل الجماهيري العريض والتجربة الفريدة".
شخصية جامعة
وتابع "خلال هذا المسار يشهد الجميع للأستاذ اليدومي انه شخصية جامعة ورجل حوار وامتاز بالهدوء والصبر، ويستند بذلك على رصيد من الخبرة والتجربة والتاريخ وكل ما يجعله أكثر رسوخا، ومازال يحرص على اللحمة الوطنية ويبعث الروح داخل الحياة السياسية".
ولفت الكاتب أنعم "نحن معنيون بإعادة التذكير بمسار هذا الرجل، لأن ثمة من يراهن أننا شعب بلا ذاكرة، بقدرته على التشويش على كثير من الأدوار الرائدة بهذا الجانب"، وقال: "في المجمل اليدومي يعد من دعائم التجربة التوافقية، حيث أن مواقفه كلها وخطاباته وتصريحاته وتحركاته، كانت تصب في اتجاه تعزيز الروح الوطنية وتوحيد القوى وإيجاد مساحة عمل مشتركة وتقليص التباينات والاقتراب من الجميع بروح متفهمة مستوعبة".
دور وطني
من جانبه قال رئيس هيئة الكتاب يحيى الثلايا "هذا الرجل الكبير واحدا من أهم اوتاد اليمن واقطابها ورجالها الذين أعطوا بصمت وبسخاء وصدق نادر دون انتظار ثمن ولا افتات على فوائد او امتيازات زائلة"، ولفت "هذا الرجل الراجح عقلا ووزنا وصدقا المعتد بذاته ونظافته، يحبه ويحترمه كل من تعاملوا معه شركاء وانداد وحلفاء أو خصوم".
وأضاف في مقال بصفحته على فيسبوك "ظل منذ تأسيس الاصلاح وتصدره المواقع القيادية نظيف اليد واللسان في ميدان السياسة الملوث بالفساد والاحقاد والخصومات، يحالف بصدق ويخاصم بشرف ووضوح، ويدرك جيدا ماهي المناطق والدوائر التي يجب تنزيهها عن الخصومات السياسية والمكايدات".
وقال الثلايا "إن الثوابت الوطنية التي نذر لها نفسه وفكره وجهوده هي الجمهورية والتعليم والمواطنة المتساوية والفكر الاسلامي الوطني المستنير، لا أحد بين قيادات الاحزاب اليمنية يستطيع مجاراة الاستاذ اليدومي في موقفه الصارخ والمبكر من الامامة والسلالية بكل لبوسها الخشنة والناعمة، فهو الأصدق والأسبق والاكثر وعيا وتوعية بخطورتها وعنصريتها والاشجع في مجابهتها".
وتابع بالقول "هناك اشياء كثيرة وكثيرة جدا يمكن قولها انصافا عن هذا الرجل الصلب واعترافا بأدواره ووطنيته وصدق حاله ومقاله، وهو الذي لم يبحث يوما عن تلميع او تسويق رغم قدرته على فعل ونيل ذلك بكل يسر وسهولة، لكنه مدرسة يمانية لا تتكرر امثالها ومن الواجب والشهامة والمروءة انصافه بل واقتفاء أثره ودراسته تجربته الغنية".