الدكتور أحمد محمد عبدالملك الأصبحي، الأستاذ الكبير، والمربي الجليل، ورجل الدول النزيه، مثال الوطنية والإخلاص، كان ملء سمع الزمان وبصره، وظلَّ طوداً شامخاً يتجاوز التجاهل والنكران، يفرض حضوره بحيويته وإبداعه، واستمر يقدم عصارة فكره وتجاربه، وخلاصة علمه وثقافته إلى آخر لحظة في حياته رحمه الله.
عاش الدكتور الأصبحي حياة حافلة بالبذل والعطاء، مليئة بالعمل والإنجاز، وترك أثراً حميداً حيثما حل وارتحل، فقد كان مثالاً للمثابرة والصبر، وشقّ طريقه بين الزحام من وسط شعبي وأسرة مكافحة، وفي ظروف غير مواتية، حتى إنه في صغره كان يذاكر دروسه تحت ضوء مصابيح الشارع العام في عدن، وقد ارتقى إلى ذرى المجد بدأَبِه وعزيمته الفولاذية، يستند على إيمان عميق بالله وثقة لا حدود لها بفضل الله وكرمه، ويقف على قاعدة صلبة من الجد والجَلَد والاجتهاد، وقد كان متميزاً في تعليمه وقراءاته وثقافته، وأصبح كذلك في أدائه الوظيفي والتنظيمي والسياسي والاجتماعي.
ميلاده عام 1366هجرية، 1947م في شِعبة جعفر، عزلة الأصابح مديرية الشمايتين بمحافظة تعز، وبدأ تعليمه في كتاب القرية ثم رحل إلى عدن ودرس الإبتدائية، وأكمل دراسته الإعدادية والثانوية في قطر ثم انتقل إلى العراق والتحق بجامعة بغداد وتخرج فيها طبيباً عام 1974م، ثم عاد إلى اليمن وبدأ حياته العملية طبيباً ناجحاً في مستشفى الثورة العام، ومحاضراً في جامعة صنعاء وكلية الشرطة، ويزدحم المرضى في عيادته بالصافية، فيخرجون من بين يديه يحملون وصفات العلاج الناجع مع جرعات من الأمل والنصائح الطبية والصحية.
الدكتور أحمد الأصبحي كان كحامل المسك، إذا قابلته أو جالسته أو رافقته أو تحدثت معه يترك أثره الطيب في حياتك وسلوكك، وإذا عملت معه تعلمت منه فن الإدارة وحصافة التعامل مع المواقف الصعبة، وعرفت منه معنى الوطنية الحقة، يضع بصمته عليك بعلمه وأدبه وحسن خلقه وكرم طباعه، ومهاراته وقدراته الإدارية، وسوف تستمتع بجمال خطه وحسن تعبيره حيث تنساب كلماته عذبة نديّة، وكأنه أحد كتاب العصور الأدبية الزاهرة، وجواباته تذكرنا بتوقيعات أشهر بلغاء أمراء وحكام الدولة العباسية، أما التقارير التي يكتبها فيختار كلماتها بعناية، ويضفي على ألفاظها رونقاً وجمالاً، وعندما يقف على منبر الخطاب يتدفق كالسيل الهادر يقرأ خمسين صفحة
(فلسكاب) بنفَس واحد، لا يلحن بكلمة ولا يتلكأ بعبارة، ولا تنِدُّ منه غلطة..فكان آية في الفصاحة والبيان وحسن الإلقاء، ومع ذلك تجده في قمة التواضع والتجرد ونكران الذات.
لقد نلتُ شرف التتلمذ على يد الدكتور أحمد الأصبحي في جامعة صنعاء، وكان مقرر الصحة المدرسية الذي يقدمه لطلاب كلية التربية ممتعاً وسهلاً نستوعبه ونحفظه من غير عناء، أما امتحان مادته فراحة للنفس واستراحة للعقل، وقد وُفِّقتُ بالعمل تحت قيادته مديراً عاماً للتعليم بوزارة التربية والتعليم عندما كان وزيراً لها، فكان قائداً وموجهاً ومعلماً ومدرباً وأباً حنوناً وأخاً رحيماً يغمرنا بحبه ويفرض على الآخرين احترامه وتقديره.
كانت حينها الأمية في اليمن تصل إلى أكثر من 80%، فنهض لمكافحتها بفتوة وقوة، فعمل على إغلاق منابع الأمية بنشر التعليم في الريف والحضر وللإناث والذكور، فبلغت المدارس التي كان يتم تشييدها في أنحاء الجمهورية أكثر من ألف مدرسة في العام، بمتوسط ثلاث مدارس في اليوم، وفي ظل إمكانات شحيحة، وتبنى الحملة الشاملة لمحو الأمية، وحشد لها الإمكانات من الداخل والخارج، وجعل أحمد مختار أمبو أمين عام منظمة اليونسكو يأتي إلى صنعاء ليدعو دول العالم للمشاركة في تلك الحملة التي استهدفت إخراج الشعب اليمني من ظلمات الجهل وأمية الحرف إلى آفاق العلم والمعرفة!
الدكتور أحمد الأصبحي قائد متميز صاحب مدرسة رائدة، يحمل من معه إلى الإنجاز والنجاح، كان يتصل بي في منتصف الليل يطلب تقريراً عن قضية تربوية، وما أن يبدأ الدوام الثامنة صباحاً وإذا به يسأل: هل أنجزت ما طلبته منك، فلا يتمكن العاملين معه من اللحاق به فضلاً عن مجاراته!
ومن ذلك أنى رافقته لحضور المؤتمر العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في تونس عام 1981م، وقد كان نجماً لامعاً في ذلك المؤتمر بمداخلاته البليغة التي كانت تنتهي بالتصفيق الحار من الحضور، واستطاع أن ينتزع من وزراء التربية العرب تأييدهم ودعمهم لحملة محو الأمية في اليمن.. وفي رحلة عودتنا إلى صنعاء عن طريق روما، كلفني مع زملائي أعضاء الوفد بإعداد التقرير عن المؤتمر الذي شاركنا في جلساته، ثم قام بمراجعة التقرير وإعادة صياغته، ولما وصلنا مطار صنعاء فجراً سلم التقرير لسكرتارية مكتبه ليقوموا بطباعته وتسليم خمسة وثلاثين نسخة منه إلى مجلس الوزراء، ذهب منزله ليأخذ قسطاً من الراحة، ثم حضر جلسة المجلس الأسبوعية ذلك اليوم وكان تقريره بين يدي الوزراء مطبوعاً!
كانت لدى الدكتور الأصبحي قدرة غير عادية على تكوين العلاقات مع الآخر، فهو مبادر لفتح الحوار مع من يلتقيهم لأول مرة، وفي المؤتمرات واللقاءات العربية
والدولية يسبق لدعوة نظرائه لجلسة خاصة أو مأدبة طعام تكون مفتاحاً لتوثيق الصلة وتكوين العلاقات الثنائية التي تعود بالفائدة على الشعب اليمني.
كان كثيراً ما يأخذ زائريه حيثما حلّ في جولات للنزهة أو للتعرف على معالم تاريخية، ويفيض عليهم كمّاً معرفياً وثقافة متعددة عن الزمان والمكان الذي يكون فيه، وفي إحدى زياراتي له في الأردن اصطحبني في رحلة ماتعة إلى منطقة الأغوار حيث يرقد عدد من كبار الصحابة رضي الله عنهم، منهم أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وعكرمة بن أبي جهل..مستحضراً سيرتهم ومواقفهم وجهادهم وكأنه عاش معهم لحظة بلحظة.
ونقل الدكتور علي الغفاري خبر آخر رحلة مع الدكتور الأصبحي قبل شهر من وفاته ضمت مجموعة من أصدقائه إلى جبل النبي شعيب في بني مطر، وكان هو صاحب الفكرة حيث أمطرهم بسيل من المعلومات التاريخية عن كفاح الإنسان اليمني وتطويعه للتضاريس والطبيعة الصعبة وبناء المدرجات الزراعية..الخ
الدكتور أحمد الأصبحي أحد كبار مؤسسي ومنظري حزب المؤتمر الشعبي العام وأمين سر لجنته الدائمة، شغل عدة مناصب رفيعة في الدولة، منها وزيراً للصحة، ووزيراً للتربية والتعليم، فوزيراً للخارجية، ثم وزيراً للشؤون الاجتماعية والعمل، وأخيراً عضواً في مجلس الشورى، وكان النجاح والإبداع والإنجاز صفات ملازمة له ودالّة عليه، وهو مثالٌ للاستقامة والنزاهة وطهارة اليد والبعد عن الشبهات، وكان حازماً وصارماً وقويّاً، يدرس قراراته بعناية، ثم يمضي لا يتلكأ ولا يتردد ولا يقبل أن يكسر له أي قرار، فهو رجل دولة قلّ أن تجد له مثيلاً، كانت له مهابة القادة والعلماء، ومع ذلك فإنه قريب من موظفيه ومرؤوسيه، يلتقيهم ويستمع منهم، ويجمعهم في لقاءات خاصة أو على مأدبة طعام بمناسبة ومن غير مناسبة من أجل كسر الحواجز بينه وبينهم.
تعود الدكتور الأصبحي أن يواجه الأحداث بثبات منقطع النظير، وعندما تدلهمّ عليه الخطوب يلجأ إلى الله وحده يستمد منه العون، يأتي لصلاة الفجر في المسجد وينصرف من دون أن يشعر به أحد، وكان الالتزام بالمبادئ والقيم مع التميز والنجاح وقوة الشخصية التي اتصف به سبباً في أن يعاديه ويحاربه بعض المتنفذين وأصحاب القرار، وما كان منه إلا أن يبتسم في أحلك الظروف متمثلاً قول أبي ذؤيب الهُذلي:
وتجلدي للشامتين أُريهمُ أني لريب الدهر لا أتضعضع
ومن ذلك أنه عندما كان وزيراً للخارجية، أعدَّ لانعقاد الدورة الخامسة عشر لوزراء خارجية الدول الإسلامية في صنعاء نهاية ديسمبر 1984م، وقبل انعقاد المؤتمر بيوم واحد تفاجأ الجميع بعزله من وزارة الخارجية حتى لا يظهر نجاحه في رئاسته وحسن إدارته لدورة الانعقاد تلك، وكان ذلك محل استغراب ضيوف اليمن المشاركين في
المؤتمر، واستنكار المتابعين السياسيين، لكنه كتم ألمه ومضى في طريقه وكأن شيئاً لم يكن!
الحديث عن معاناة الدكتور الأصبحي وصبره وجحود ماضيه محزنٌ ومؤلم، على الرغم أنه لم يتعود أن يشكو أو يتبرم، وعندما تعرض لمحاولة الاغتيال التي استهدفت حياته فنجّاه الله ولطف به وأمدّ في عمره، حيث كمنت الطلقة الغادرة بين قلبه وعموده الفقري، ونقل إلى مستشفى الكويت، وظل أياماً ينتظر موعد رحلة عمّان الاعتيادية، وكان الواجب أن ينقل مباشرة بطائرة خاصة كما يحدث مع من هو أقل شأناً منه، فكان ذلك التعامل تقصيراً فاضحاً، ونكراناً للجميل مع رجل مخلص أفنى حياته في خدمة شعبه ووطنه ودولته، ولعل ذلك يفسّر تأجيل عودته إلى اليمن سنوات بعد أن تماثل للشفاء، غير إنه استأنف حياته وتفرغ للقراءة والبحث والتأليف فأثرى الوسط الثقافي برؤاه الفكرية والسياسية والتاريخية والأدبية وتأملاته في الكون والحياة، وقد صدر له ثلاثين كتاباً تشهد على سعة علمه وتنوع ثقافته، ورحابة أُفقه، منها الانطباعات ودورها في قضايا السلام، تداعيات رحالة في زمن الانكسار، أوراق في المشروع العربي، قراءة في تطور الفكر السياسي(ثلاثة أجزاء)، من شواهد الإبداع في الحضارة اليمنية القديمة، تجديد الحديث عن تاريخ الطب علما وفناً وأخلاقاً، الله خالق كل شيء، الفساد في الأرض وحتمية التغيير، فلسطين ومعركة سيف القدس، الإنسان جسم وعقل وروح، القضاء تحري العدالة وفقه القانون، مالك بن أنس الأصبحي: حياته وعصره أراؤه وفقهه، الحضارة العربية الإسلامية في عصورها الأولى..الخ
عاش الدكتور الأصبحي سنوات عمره الأخيرة في صنعاء حتى وافاه الأجل المحتوم يوم الثلاثاء 4 من يوليو 2023م وخلف ولدين وابنتين، وتمت مواراة جسده الثرى في مقبرة الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر جنوب صنعاء.
رحم الله الدكتور أحمد الأصبحي الرجل العظيم الذي ضرب أروع المثل في النُّبل والخُلق الحسن، والعفة والنزاهة، والإدارة الكفؤة، والقيادة الحكيمة، والسياسة الحصيفة.