في التجارب الإنسانية الجماعية للأمم الحية تحرص روح الجماعة فيها على توجيهها الوجهة السليمة لتحقيق غرضها الإنساني من هذه التجربة أو تلك بشكل مشرف، يمثل إنجازا متميزا في مصفوفة المنجزات الإنسانية. غير أن هذا الحرص مهما بلغ من درجات اليقظة لا يمنع تسرب الأخطاء وأحيانا إلى عمق هذه التجارب بدرجات متفاوتة.
ذلك أن من طبيعة النشاط الإنساني في مرحلة ما قبل الإنجاز الحماسية الزائدة. بما فيها من إقصاء للعقل والمنطق والتغاضي عن الهفوات التي قد تبدو بفعل الانفعالية المفرطة هفوات صغيرة مقارنة بالهدف الذي يُسعى إلى تحقيقه. لكن هذه الهفوات تتجمع فيما بينها لتصبح عامل إعاقة قويا يحول دون تحقيق الهدف أو أنه يسمح بتحققه ولكن بصورة ناقصة ومشوهة. مما يستدعي من القائمين على مسيرة هذا المشروع الإنجازي التوقف بين مراحل هذا الإنجاز للتقويم والمراجعات والوقوف على مجمل الهفوات. والمداخل التي تسربت منها إلى عمق النشاط. وذلك لتصحيح خط السير والتخلص من الثآليل الثقيلة التي أحدثتها تلك الأخطاء.
وهذا بالضبط ما تحتاجه ثورة فبراير اليوم وبعد مضي اثنتي عشرة سنة من انطلاقتها.
إن تصوير هذا الحدث الجماهيري على أنه منجز مثالي لا يخالطه أخطاء أوهفوات هو هروب مخاتل من تقويم ما حدث في ضوء ما كان ينبغي أن يحدث. كما أن النظرة المثالية للأشياء تعمى أن ترى الأشياء على حقيقتها، فلا تعطي فرصة للتقويم والمراجعة والتصحيح. وفي ذلك جناية كبيرة على الثورة وعلى ما قدمت من ثمن وبذلت من تضحيات. لأن أي محاولة لإنكار ما رافق هذه الثورة من أخطاء وتجاوزات إنما ترمي إلى ذر الرماد على العيون ووضع المعوقات أمام فرص التصحيح الجاد.
كما أن تصوير هذه الثورة على أنها شر محض فيه إهانة كبيرة للجماهير الطويلة العريضة التي خرجت للمشاركة في صناعة هذا المنجز الثوري، فليس من المنطق أن يجتمع الناس على باطل. لكن حماسهم واستعجالهم في تحقيق ما خرجوا من أهله ربما أوقعهم في تجاوزات عديدة شكلت في مجملها صورة جزئية بئيسة يحاول مناهضو هذه الثورة إقناع الرأي العام بأن هذا البؤس هو الثورة.
وفي ذلك تجن آخر أشد قسوة على هذه الثورة لأن أي محاولة لشيطنتها تهدف إلى إفراغها من مضمونها الإنساني وتحويلها إلى مجرد ذكرى تعيسة بئيسة.
وما بين هذا وذاك يبقى موقف النخبة من سدنة هذه الثورة متطلبا ضروريا وحتميا في التنادي والاجتماع للتدارس والتمحيص وسبر أعماق هذه التجربة الحية للوقوف عليها من كل النواحي وبشكل يتجاوز المساهمات الإعلامية المتفرقة إلى عمل منهجي منظم وفاعل.. فهل نطمع أن نرى أمرا كهذا في قادم الأيام؟