لما تخلف الصحابة : كعب بن مالك، و هلال بن أمية ، و مرارة بن الربيع - رضوان الله عليهم - عن غزوة تبوك دون عذر؛ أمر الرسول صلى الله عليه و سلم الصحابة كافة، بعد عودته، بعدم الحديث معهم، كعقوبة لهم عن تخلفهم.
مضت الأيام ، و ضاق الأمر بالثلاثة ، حيث قاطع كل من في المدينة المنورة الكلام معهم ؛ فضاقت بهم الأحوال حتى كان أقرب الناس قرابة منهم لا يكلمهم.
أما هلال و أمية فقد لزم كل منهما بيته يبكي خطيئته، و أما كعب بن مالك فقد كان يتجول في المدينة، و يمشي بين الناس، بالرغم من أنه لا يجد أحدا يكلمه.
طال عليهم الزمن، و ضاقت عليهم أنفسهم، و لعل كعب بن مالك كان أكثر إحساسا بهذا الضيق ؛ لأنه كان يخرج بين الناس فيجد إعراضهم عن الكلام معه فيضاعف هذا الضيق عنده.
و فيما كعب بن مالك يمشي في المدينة المنورة، إذا برجل من أهل الشام ، ينادي و يقول : من يدل على كعب بن مالك، فراح الناس يشيرون له نحو كعب ، فيقترب الرجل من كعب و يسلمه رسالة من ملك غسان ؛ و إذا الرسالة تعلن تضامن ملك غسان، بل و تدعوه إليه، فيقرؤها كعب، فإذا فيها :"أما بعد ، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، و لم يجعلك الله بدار هوان، و لا مضيعة، فالحق بنا نواسك".
إلحق بنا نواسك !؟ .. يا له من عرض مغرٍ و مثير .. عرض جاء في وقته.
ملك يدعوه ليواسيه و يقربه إليه ! آن لكعب أن يرد الصاع صاعين، و أن ينتقم لنفسه. هكذا يمكن أن يقول كل ضعيف الإيمان قليل المروءة، فقير الرجولة، هكذا يمكن أن يقول و أن يفعل.
إنها رسالة بلاء، و موقف ابتلاء ( إلحق بنا نواسك) ، و النفس أمارة بالسوء، و لا تكون النفس أكثر استجابة لردود الأفعال مثل هذا الظرف، و لا يتجند الشيطان أو يتمحض للوسوسة ، كما يتجند عند مثل هذه الحال، فإذا النفس تتجاوب و تستجيب . و نزعات النفس إذا خمّرها الغضب، و أوقدت لهبها ردود الأفعال دمرت، فلا يتردد بين جنباتها إلا السخط الأحمق، و التصرف المشين.
كان كعب بن مالك شاعرا، و الشاعر - يومها - هو الناشط الإعلامي، و القناة الفضائية، و هو المؤسسة الإعلامية ، و ربما - إلى جانب استغلال ملك غسان لظرف المقاطعة لكعب - لأن كعب بن مالك شاعر، أراد ملك غسان ضم هذا الشاعر إلى بلاطه ؛ لتسخيره ضد النبي محمد و صحبه، حيث هذا الشاعر يعرف الكثير عما يريده ملك غسان.
تبا لها عبارة ؛ إلحق بنا نواسك .. إنها ماتزال قاعدة التعامل عبر الزمن مع الضعفاء المهازيل من المتطلعين لها، و المرتهنين إليها !
و المرتهنون لها اليوم صنفان من الناس ؛ صنف أكثر رخصا، و أكثر ابتذالا لنفسه ؛ يوم يلقي بها للتمسح في عتبات هؤلاء أو أولئك، لعله يحظى في أن يجد فرصة - عند ركب هذا أو قدم ذاك - لا لينتظر من يقول له : إلحق بنا نعطيك .. و إنما هو من يبادر و يقول : هل نلحق بك تواسينا ؟
و أما الصنف الثاني فهو و إن كان برخص الأول و ارتهانه، إلا أنه يحاول أن يخفي ابتذاله و ارتهان نفسه فيتزلف من بعيد عبر عروض التقرب من على مسافة، حتى يسمع أمنيته و مبتغاه، من فم رب النعمة : إلحق بنا نواسك !
هذان الصنفان بلا وزن حقيقي، إذ يصيرا مجرد مداحين بالقطعة ؛ سواء كانوا أفرادا أو مجموعا..!!
أما الخاسر الأكبر فهو ذلك الذي كانت له مواقف سابقة، ثم يستفزه موقف ما، أو يجد خطأ ظهر هنا أو وقع هناك، أو - حتى - هو نفسه أصابه خطأ، فكان من ردة فعله أن سعى لتحطيم المكسب على نفسه و على غيره بدافع من الحمق، أو ردود الفعل العمياء !
فهذا إن وجد، و هو نادر الحدوث، يخسر نفسه، و يخسر رصيده و مواقفه.
كعب بن مالك - رضي الله عنه - لم تُغْرِه رسالة ملك غسان: إلحق بها نواسك .. و لكنه تعامل معها معاملة الشامخة رؤوسهم، الثابتة أقدامهم، الراسخة مواقفهم؛ و لذا فإنه بكل كبرياء الإيمان، وثقة المؤمن ألقى بها التنور غير عابئ فيها.
هؤلاء هم الرجال ، شامخون في مواقفهم، ثابتون على مبادئهم لا يضرهم من خذلهم، و لا تؤثر فيهم : إلحق بنا نواسك ممن يستعبدهم الدولار و الخميصة.
من يتطلعون لسماع عبارة إلحق بنا نواسك ؛ فيصبحون عبيدا لمن أسمعهم إياها ؛ فإنهم عبيد تتلقفهم أيادي النخاسة هنا و هناك، حيث يصبحون بلا وزن و لا قيمة..!!
و الخير كل الخير فيمن يلقي برسالة ملك غسان، أو النخاس ؛ في أي زمن أو مكان في التنور، و له أن أن يدوس بقدمه على رسالة : إلحق بنا نواسك !
رسالة ملك غسان - أو من يمثل دوره - إلحق بنا نواسك مازالت تتحرك بطريقة أو بأخرى، هنا و هناك ؛ بغرض شراء هذا الناشط، أو تيك، و هذا الصحفي أو تلك، و ذمم هؤلاء أو أولئكم .
لكن في المقابل ؛ هناك جيل كعب بن مالك، ممن تناطح هممهم الثريا و تتجاوز الفرقدين، لا يبيعون ذممهم، و لا يطوّعون أقلامهم و مواقفهم إلا للحق.