ليس ثمة شك في أن النهضة الأدبية والفنية التي شهدتها عدن قبيل اندلاع ثورة الرابع عشر من أكتوبر كانت من أهم الحيثيات الفاعلة التي هيئت المناخ ومهدت الطريق لقيام هذه الثورة العظيمة.
وتشير المصادر التاريخية التي أرخت لمدينة عدن في العقدين الأربعيني والخمسيني على وجه التحديد إلى وجود حراك أدبي وفني واع، يديره أدباء وشعراء وفنانون كثر كانت تجمعهم الملتقيات الأدبية الفنية العديدة، وكانت منازل كبار الأدباء آنذاك تمثل صوالين أدبية فاعلة كما كان الحال مع منزل الدكتور محمد عبده غانم أو منزل الشاعر لطفي جعفر أمان أو منزل الشاعر عبدالله فاضل فارع أو منزل الشاعر محمد سعيد جرادة، ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هذه الملتقيات لم تكن منفصلة عن الواقع، بل كانت شديدة الصلة به، تقرأه بوعي وطني كان أشبه ما يكون بعقيدة ثابتة لدى رواد هذه الملتقيات من الكتاب والشعراء والفنانين.
في هذه الأجواء ولدت الأنشودة الوطنية على يد عملاقين كبيرين في المشهدين الأدبي والفني، هما الشاعر الكبير لطفي جعفر أمان والفنان الكبير محمد مرشد ناجي، ففي عام 1956 أقدمت السلطات البريطانية على اعتقال عدد من الناشطين السياسيين مما أدى إلى تنامي السخط الشعبي عليها، لكن هذا السخط ظل محبوسا، ولم يخرج إلى طور العلنية إلا بعد أن كتب الشاعر لطفي أمان قصيدته الثورية التي يقول في بعض أبياتها:
أخي كبّلوني
وغُلّ لساني واتهموني
بأني تعاليتُ في عفتي
ووزّعتُ روحي على تربتي
أخي قد نذرت الكفاح العنيد لهذا الوطن
إلى أن أرى أصدقائي وهم طلقاء
يقولون ما مات حتى انتقم
وعلى الفور قام الفنان المرشدي بتلحينها وتسجيلها لإذاعة عدن، فأزالت بمضمونها الثوري ولحنها الحماسي حاجز الخوف، وانطلق أبناء عدن في مظاهرات صاخبة كانت أول ثمارها إطلاق المعتقلين، وكانت أول خطوة للأغنية الوطنية في مشوارها الطويل، تبعتها خطوات وخطوات، وقد أصدرت السلطات البريطانية يومها أمرا باعتقال أمان والمرشدي لكنها تراجعت عنه خوفا من امتداد الغضب الشعبي وتناميه.
ولم تمض أسابيع حتى بثت إذاعة عدن أنشودة ثورية جديدة للمرشدي كتب كلماتها هذه المرة الشاعر محمد سعيد جرادة، غير أن مرحلة جديدة للأنشودة الثورية بدأت تنطلق بمواجهة الاستعمار وجها لوجه.. تصريحا لا تلميحا، وقد مثلها الفنان محمد محسن عطروش بأنشودته الشهيرة التي يقول فيها:
برّع يااستعمار
من أرض الأحرار
برع ولّى الليل يطويك التيار
تيار الحرية
تيار القومية
تيار الجبار
خلّى شعبي ثار
كما مثلها أبو بكر بلفقيه بأنشودته التي يقول فيها:
اليوم يومك ياعدن
اليوم ع الطغيان والبغيان شبّيها وصبّيها
والإنجليزي لا ولن يبقى على أرضك
مادام النار والأحرار تحميها
شعب الجنوب ياحر
ع الذل لا تصبر
ثر يابطلنا ثر
ذوّق عدوك مر
وفي مرحلة الزخم الثوري أصبحت الكلمة المغناة رديفا ثوريا للبندقية، التي انطلقت من جبل ردفان وللمظاهرات الطلابية والعمالية التي كانت تجوب شوارع عدن فقد غنى إسكندر ثابت أغنيته الشهيرة التي بثتها إذاعة صوت العرب من القاهرة والتي يقول فيها:
سلام ألفين للشجعان في البندر
على صوت العرب قاموا
ومن أجلك
حلفت أيمان بالقرآن والخنجر
وغنى أحمد بن أحمد قاسم أغنيته الشهيرة:
من كل قلبي أحبك يا بلادي
يا يمن
وافديك بدمي وروحي وأولادي
يا يمن
وغنى محمد صالح عزاني أغنيته بلادي بلادي.
ولأكتوبر كما لسبتمبر كتب الكثير من الشعراء وغنى العديد من الفنانين، وستبقى أعمالهم الأدبية والفنية حاضرة في ذاكرة الشعب اليمني لأنها أناشيد حرية وأيقونات كرامة.