ليس ثمة شك في أن من أبرز الأسباب التي قادت الأمة العربية والإسلامية إلى الانتكاسة الحضارية التي تعيشها اليوم هو مغادرة الكتاب ساحة اهتمامها على المستويين الجمعي والفردي، وينتابك استغراب حد الذهول حين ترى الأمة التي أيقظتها من سباتها العدمي كلمة (اقرأ)، ثم لازمت الكتاب في حلها وترحالها حتى جعلته خير جليس، وأثثت به حواضرها ومدنها حتى صارت خزائن المخطوطات في مدينة بغداد ذات حضارة أكثر من جوامعها ومساجدها.. تستغرب حين ترى هذه الأمة الحيري وقد نسيت الكتاب تماما، وأصبحت بحاجة إلى منظمة أممية لتذكرها يوما في العام بأن شيئا ما يسمونه الكتاب ينبغي أن يحتفى به هذا اليوم.
لقد غادرَنا الكتابُ إذن أو غادرناه.. لا فرق.. فمُـنينا إثر ذلك بخسارات كبيرة: خراب في الوعي، وانتكاسة في المعرفة، وضياع للهوية، واستلاب حضاري، وغياب عن الشهود الحضاري والعطاء الإنساني الذي كنا من رواده الفضلاء يوم أن كنا مع الكتاب وكان الكتاب معنا.
كان السؤال الذي يتبادله المثقفون فيما بينهم: ما اسم الكتاب الذي قرأته هذا الشهر؟ ثم بدأت رحلة التراجع عند السائل والمسئول والمسئول عنه، فتغيرت صيغة السؤال إياه إلى: هل قرأت كتابا هذا العام.. وكنا فيما مضى من الوقت نشتري العناوين المهمة من الكتب على نية قراءتها مستقبلا، فتوقفنا عن ذلك ولم نعد ندري بجديد ولا قديم.. ليتطور السؤال منتكسا إلى: هل اشتريت كتابا هذا العام؟.. وبتطور هذا السؤال تطورت إجاباته الصادمة.. صحيح أن الإجابة كانت موحّدةً بـ(لا) قرينة كل سؤال لكن دلالاتها ومؤشراتها تضاعف الحسرة بشكل متنام، وتختزل قصة الكتاب الذي لم يعد له جليس ولا أنيس.. غير أن (لا) إياها تصبح سكينا ذابحا حين تجد نسبة كبرى من شبابنا وقد بلغوا من العمر عقودا.. وحين تسأل الواحد منهم: هل قرأت كتابا من غير الكتب التعليمية في ما مضى من عمرك؟ هل اشتريت كتابا يوما ما؟
صحيح أن ثورة الاتصالات وخاصة في أجهزتها المحمولة أوجدت بونا شاسعا بين الناس وبين الكتاب الورقي، أضف إلى ذلك وجو مثبطات أخرى كاختفاء المكتبات العامة والخاصة، وارتفاع كلفة الكتاب، وتسيّد ثقافة الصورة التي عززتها ثورة الاتصال على ماعداها.. لكن كل هذه المبررات تبدو واهنة واهية أمام ما قدمته هذه الأجهزة للكتاب الإلكتروني بصيغه المختلفة، فقد وضعته في متناول اليد، وبسعر لا يذكر، ثم أنها جعلته متاحا على مدار اللحظة، وبكم مهول وكيفية بسيطة، حيث يمكن تخزين آلاف الكتب في هاتف محمول لا يتجاوز حجمه حجم راحة اليد..
إن أزمتنا مع الكتاب هي أزمة نفسية في المقام الأول، وقد تبدت هذه الأزمة في أعراض كثيرة منها: الكسل الذهني، والملل المعرفي، والنزق التفكيري، وانعدام اليقين بأهمية الوعي.. ولن تجد الأمة طريقها إلى الوجود الفاعل حتى تتخلص من كل ذلك، وحتى تعيد الكتاب إلى سابق عهده: فتصبح القراءة خبزا يوميا، ويصبح الكتاب حادي معرفة وبوابة وعي، وخير جليس نحتفي به في العام الواحد ثلاث مئة وستين يوما.