رحم الله الشاعر الأديب مهدي الحيدري فقد نجا من الحياة وأوجاعها في وطن كان يعاني وجعا ثم أوجاعا ثم أصبح هو الوجع نفسه وما من واع حساس إلا وأخذ حظا غير منقوص من هذا الوطن الوجع الذي لا يَبرأ منه أحد إلا بالموت والموت وحده فقط.
عرفت الحيدري قبل ثلاثين عاما في بداية تسعينيات القرن الفائت عندما كان رئيسا لاتحاد الطلاب في معهد الشوكاني لأعداد المعلمين بصنعاء، وكان إلى ذلك أديبا واعدا، جمع الله فيه جمال الروح إلى ملاحة الوجه إلى طيبة أخلاق، فكان بهذه الثلاثية محط اهتمام لمن حوله من مدرسيه وزملائه، وبمثابرة حثيثة منه أضاف إلى شخصيته بعدا رابعا، حين دخل عالم الكلمة الجميلة والبوح الشعري، وكان زملاؤه وأساتذته ينتظرون منه بصبر فارغ كل جديد من قصائده المطرية، فقد بدأ يومها رحلة الكلمة الشاعرة متأثرا حد الوله بشاعر المنفى أحمد مطرا أسلوبا وصورا ومضامين فكرية، وكان الوطن يومها يمر بتحولات كبرى بدأت بقيام الوحدة اليمنية مما أتاح له فرصة التخلص من النمذجة الشعرية والبحث عن الذات وسط هذه القضايا المحفزة المستفزة، وبذلك أفلت من شرنقة التقليد وانطلق في عالم الأدب سردا وشعرا بذات متفردة وقلم متميز. وخلال مسيرته الأدبية التي امتدت ما يقارب ثلاثة عقود أنجز الحيدري عددا من الأعمال الأدبية، افتتحها بمجموعة شعرية، اسمها: بين إيقاد الشموع ولعن الظلام، ضمّنها الكثير من شعر البدايات.
وبالتوازي كان يتعاطى السرد جنبا إلى جنب، فأنجز رائعته الروائية: الكهف المهجور التي صدرت عن الهيئة العامة للكتاب، ثم توالت بعد ذلك إصداراته التي منها: ألف لا شيء له شعر، تفاصيل وردة رواية، الطوفان شعر، وحده يموت واقفا شعر، الخيرون شعر.
ولد الحيدري عام 1970 وتخرج في كلية الشريعة والقانون، ثم عمل في مجال المحاماة، وليس عجيبا أن يجتمع لديه الشعر والأدب بالمحاماة، ذلك أن الشعر الملتزم ما هو إلا مرافعة طويلة الأمد ضد كل ما هو قبيح في الحياة، كما أن المحاماة أيضا كذلك. غير أن هذا الشاعر الذي ظل لعقود يرفع عقيرته منافحا عن قيم الحق والخير والجمال لم يجد له في مرضه صوتا ينافح عنه ضد المرض الذي أنشب أظفاره في جسده النحيل، ولم يتركه إلا جثة هامدة.
يقول عنه أحد زملائه من الشعراء: "لشعر الحيدري مذاق خاص، ولعل أبرز سماته تكمن في عمقه الفكري وذلك التصالح الخلاق بين ما هو فني وما هو قيمي" مضيفا في تعاطينا الشعري معه من خلال الفعاليات الأدبية المختلفة كنا نلهث خلف الصورة الومضة، وكان الحيدري يؤثث نصّه بالفكر، فلا تجد فيه عبارة رشيقة إلا وتختزل فضاء من الأفكار الحية الجميلة.. لقد كان بذلك أكثرنا حضورا وأغزرنا قيمة".
وكأني بالحيدري يرثي نفسه حين قال:
الشعر كهل بائس لولاهُ
والبائسون جميعنا لولاه
ولذلك يمم شطره متوضئا
شعري وصعر خده لسواه
ألق على ألق رأى فيه الأسى
ضحكا فباع به البكى وشراه
هو قمة ضوئية في ظلها
تتزاحم الأضواء والأمواه