" تعس عبد الدينار و عبد الدرهم و عبد الخميصة" إنه تحذير نبوي، يوقظ همة ، و ينبه من خطورة أن يبيع إنسان نفسه للدينار؛ هلعا نحو المال، و جشعا وراء المتاع، واستجداء خلف الشهوات، فيصبح عبدا مسلوب الإرادة، فاقد المروءة، هابط الهمة ، مُصادَر الإرادة و الحرية.
يأتي رمضان، حيث الصيام تبدو مطالبه في ظاهرها كوابح و قيود ، و محظورات و ممنوعات ؛ إمساك عن الطعام ، و امتناع عن شرب الماء، و حظر لمباشرة الرغبة الجسدية. كل ذلك محظور من حين يتبين للمرء الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر إلى حين مغرب الشمس.
إنها ضوابط يومية ، و طوال شهر كامل ؛ و لكنها ضوابط و قيود يتقيد بها المسلم : إيمانا و احتسابا شهرا كاملا، حدود و قيود لا يقربها، و لا يحل له أن يتعداها، بينما هو حر من تلك القيود في سائر شهور العام، إلا أن يتطوع بصوم في غير رمضان.
هذه القيود الظاهرة ؛ التي هي في ظاهرها قيود، هي في حقيقة الأمر و جوهره عوامل بناء الحرية، و أُسُّ تربية و بناء الإرادة.
حرية تتربى في ظلال الإيمان، و إرادة تتجذر و تتجسر في رحاب الصيام الذي ينشئ النفوس على الصبر و قوة الاحتمال .
حرية تتعالى على المطالب الجسدية : إيمانا و احتسابا، و طوعا دون إكراه . حرية يحتاجها الفرد و يحتاجها المجتمع، و تحتاجها الأمة؛ بله يحتاجها الرئيس ويحتاجها المرؤوس.
ما قيمة الفرد تستبده ملذاته فيهوى، و ما قيمة المرء تستعبده شهواته فيفقد حريته؛ فيصير ذيلا لمن يملك إشباع شهواته.
إنه يصبح مجرد مخلوق يدور حول نفسه..!!
ما قيمة كل هؤلاء الذين سبقوا إذا فقدوا حريتهم ؟ هل تبقى لهم حرية حينئذ..!؟
هذا الجسد زاده من الطين، فهو شَرِهٌ نحو الطعام بأصنافه، و نحو الطيبات من المشروبات بأنواعها، و كم يحب و يهوى أن يأوي إلى فراش نديّ، و مخدع ودود، و كلها ملذات الجسم، و رغبات الجسد، لكن هذا الجسد تتدرعه روح، و تنيره نفخة علوية، و فيما الجسد يرى ملذاته و غذاءه في الطين و ما يدب عليه، يجد الروح غذاءه و ملذاته في تطلعه و سموه إلى السماء و ما تنزل و يتنزل منها.
روحك لا تسمو،و لا تحس بروحانية السمو بطعام شهي، و لا بأكلة دسمة، لكنك تحس براحة شعورية، و لمسة روحانية ربانية، و أنت تؤدي عبادة، و يكفي ما تعيشه مثلا، تلك اللحظات التي تعيشها بروحك قبيل المغرب في رمضان منتظرا أذان المغرب، و لكل انسان تجربة - بلا شك - في هذا الشعور مع كل عمل من بر و خير.
رمضان شهر التقوى، نعم، لكنه- أيضا- شهر التحرير الذي يحرر المسلم، فيتحرر من عبودية المادة، وسُعار الشهوات .
في الحرية كرامة الإنسان، فلا يذل، و لا يخور، و لا يُرتهن ، و في الذل و الذيلية مهانة الإنسان، فيخضع ، و يجبن، و يستكين..!!
مرحبا مرحبا رمضان، شهر التقوى و الحرية و الإرادة .