ليس أغرب من بروز ظاهرة الانتحار في مجتمعنا اليمني المسلم إلا ظهور أصوات منكرة تبرر له، وتعتبره حقا شخصيا متاحا يمكن للمرء القيام به أنّى وكيف أراد ذلك.
إن هؤلاء المبررون الذين حولوا منصات التواصل الاجتماعي إلى ثكنات تحريض على قتل النفس الذي حرمته جميع الشرائع والأديان لا يقلّون خطرا عن مروجي المخدرات، بل إن المتمعّن في مآلات تحريضهم ليصل إلى قناعة بأنهم أعظم خطرا وأشد فتكا، لأن نشاطهم التحريضي سهل وميسور وبمنأى عن الرقابة الرسمية والشعبية، كما أن الخطاب فيه موجه إلى شريحة عظمى من الناس ممن تكالبت عليهم منغصات العيش وانعدمت لديهم أسباب الحياة الكريمة، وكثير ماهم.
لاشك أن الواقع كالح شديد البؤس، لكن منطق الإيمان يحتم على المجتمع كلا أن يزيد من ترابطه وتراحمه، فإذا ما أصيب فرد بمعرة الفاقة والمسغبة تداعى له سائر المجتمع تراحما وتعاونا ومدا ليد العون حتى يتوفر المستوى الأدنى من المعيشة، لأن الإنسان السوي يقنع بهذا المستوى من العيش حين نزول النوازل وتفاقم الكوارث.
أما على المستوى الفردي فإن منطق الإيمان ليحتم على الفرد السعي الحثيث ابتغاء للرزق ودفعا للمسغبة ولو أن يحتطب من واد أو جبل فيبيعه على الناس وكرامته موفورة وحالته مستورة.
كما أن ذات المنطق ليؤكد في يقين الفرد والمجتمع أن الانتحار تتوافر فيه كل شروط القتل العمد للنفس ومن قتلها فكأنما قتل الناس جميعا، وأن الانتحار هروبا من أوجاع الحياة لا يكون طريقا لنيل الراحة الأبدية كما تصوره الكتابات السمجة الغبية؛ بل إنه انتقالٌ طائش أهوج من عذاب آني إلى عذاب أبدي، فيكون المنتحر بما أقدم عليه كالهارب من هجير الشمس إلى منزل تستعر ناره فيه وتوصد أبوابه ونوافذه عليه.
ليس الانتحار توقف اختياري عن العيش، ولا أنفة عن توافه الحياة، ولا طريقة لبقاء النفس وافرة الكرامة، ولا غير ذلك مما تدّعيه تلك الكتابات المتفلّتة التي تحرض عليه هنا وهناك. إنه بالمختصر المفيد معول هدم للمجتمع وطريق مضمون لنيل سخط الله الذي قال (ولا تقتلوا أنفسكم) واعتبر ذلك (عدوانا) وتوعّد مرتكبه بالنار. ولا يقدم عليه إلا يائس من رحمة الله، عاص لقوله، منكر لوعيده.
أما أولئك المحرضون الأفّاكون الذين يزينون هذه الجريمة بزخرف القول؛ فإن الواحد منهم ليصنع من نفسه بما يقول ويكتب مشروع قاتل ينفث سمه بين النفوس الضعيفة، فيحولها إلى نعوش وجنائز على رصيف الانتحار، وهو لا يعلم بالخراب الذي أحدثه تحريضه، فيصير بذلك قاتلا مجهولا حتى عن نفسه، مثله في ذلك مثل أولئك الذين يطلقون أعيرتهم النارية في الهواء، فترتدّ على رؤوس الناس هلاكا وموتا زؤاما.
إن أبشع مافي هؤلاء أنهم لا يعلمون بمآلات ما يصدر عنهم فيصبح القاتل منهم جاهلا بجريمته، وبهذا يُحرم من شرف التوبة والندم في الدنيا حتى إذا وقفوا هنالك بدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون.
إن معطيات الواقع مفزعة بالغة الوجع، وتحمل في جعبتها الكثير والكثير من الأسباب التي تدفع أصحاب النفوس الضعيفة للانتحار، وليس أقبح من ذلك كله إلا تلك الكتابات المجرمة التي تجعل من هذه الأسباب مبرارات كافية ومقبولة للانتحار، ومادة لزجة يطلون بها تحريضَهم على الهلاك.. أهلك الله عقولهم إن كان بقي فيها شيء يصلح للهلاك.