من بين الأعياد الوطنية المجيدة؛ ينفرد الثلاثون من نوفمبر برمزية خاصة، لا على المستوى الوطني وإنما على مستوى الإنسانية أجمع، إنه رمز الخلاص وشارة الحرية، وانتصار الحق المدجج بالعزيمة على الباطل المدجج بالقوة، وفي قصة الصراع مابين عزيمة الحق وقوة الباطل تنتصر الشعوب الحية أبدا، وتلك سنة الله جل في علاه تقتضي أن الباطل كان زهوقا.
في تقصينا لتفاصيل مشهد ماقبل الثلاثين نوفمبر تظهر بوضوح الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وقد أحكمت سيطرتها على محمياتها الاستعمارية في جنوب اليمن، وحشدت كل إمكاناتها المهولة لإبقاء الوضع على ماهو عليه، يساعدها في ذلك تقدمها العسكري ونزعتها الاستعمارية من جهة، وحالة الموات المطبقة التي يعيشها العالم العربي من جهة ثانية.
وفي جزء من المشهد يظهر شعب مغلوب على أمره تلهو به الريح يمنة ويسرة، يبحث عن هويته وعزته وكرامته في طريق مثقل بالليل والعسف والمؤامرة، وعواصف الظلام المتنامي توحي بانكسار الأمل وتعاظم المأساة، ولسان الحال يقول: أنّى لشعب أعزل ضعيف لا يملك قوت يومه أن يغالب أسطولا يمتلك البر والجو والبحر .. لقد كانت هذه الحالة العدمية تعفي هذا الشعب من مسئوليته النضالية، وتعطيه مبررا أخلاقيا للهمود والجمود، لكن جذوة الحق لا تخمد مهما رانت أكوام الثلوج القادمة من زمهرير الإنسانية، وبذرة الخير النابضة بالحياة لا راد لها من أن تشق أطباق الثرى صُعدا إلى النور والشمس والحرية.. وحينها شاهد العالم أجمع ذلك الشعب الأعزل وهو يصنع المعجزة، ويلقي عصاه فإذا هي تلقف عصيهم وحبالهم، وتفجر الرعب في وجوههم قوافل من الشهداء، شلّت حركتهم، وأذلت كبرياءهم المنتفشة، ومرغت أنوفهم في التراب، وأثبتت أنهم بشر ممن يخلق، لا ـ كما زعموا ـ أنصاف آلهة لا تقهر، ولم يكن أمامهم بد من رفع الراية البيضاء، والرحيل عن أرض أصبحت تمقتهم ببرها وبحرها، وسهولها وجبالها، وأشجارها وأحجارها، وبكل ذرة مقاومة في ترابها الطاهر، فكان الثلاثون من نوفمبر موعدا لرحيل آخر علج منهم، ومنارا للسائرين على دروب الحق والحرية.
ومن الغبن لهذا اليوم العظيم أن نجعله مجرد ألقية في متحف التاريخ أو ذكرى تستدعي بها أناشيد النضال وذكريات الثورة، فلم يكن ذلك غاية للأرواح التي صنعته، ولا للدماء التي نسجته.
من حق هذا اليوم أن يكون منارة نضال، يستلهم منه عشاق الحرية مقاومة كل طارئ، ومغالبة كل دخيل، ويستمنحونه العزيمة.. العزيمة التي تستطيع برجال اليوم صناعة الخلاص كما استطاع آباؤهم وأجدادهم من قبل.. وإنه لطريق واحد.