وأنا اتصفح كتاب الصديق العزيز حميد الرقيمي المعنون " حنين مبعثر" شعرتُ بطعم المرارة، فهذا الجيل يدفع ثمن غفلة الأجيال التي نامت في العسل، أو هربت من الواقع، أو توهمت النصر وركنت على الجهلة في إدارة شؤونها، فبعد ثورة انهت الإمامة والاحتلال شكلياً فقط - فقد استمرت المنظومة الاجتماعية والثقافية والمعرفية للعهد البائس على حالها - احتفظت بريطانيا بقوائم حلفائها ومجنديها حتى اللحظة، واحتفظت الإمامة بكهنتها وكامل منظومتها داخل بنية المجتمع معتمدةً على ما جرت عليه العادة في التمايز الاجتماعي الذي استمر إلى اليوم.
الأسى والتيه والخوف والهجرة والتشرد ومفردات حزينة كثيرة اختزلها حميد في كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتان على الوجدان " حنين مبعثر" 60 عاماً فقط وعدنا نتدفق نحو المنافي مفارقين بلاد النور تاركينها للظلام. وكل يوم الصور الحزينة تطعن أحاسيسنا قادمة من المهاجر المتعددة لليمنيين، عندما نرى بعض من فروا رغماً عنهم وعن أسرهم واقتلعوا أطفالهم كالشتلات الحزينة من أرضهم يتوارون هناك في البلدان البعيدة تحت بند قبولهم لاجئين، يعتبر البعض هذا اللجوء مفخرة ومُنجز، بينما الأغلبية يتوارون عن الأنظار من أثر الذل والقهر والحسرة، وهذا هو ما قاله حميد في 116 صفحة من الحنين المتواصل بلا انقطاع.
وضعني الكتاب في الصورة المأساوية للمشرد اليمني خارج الديار، ووضعني أمام تساؤلات تخص كاتبه، لم أجد الوقت ولا المناسبة لسؤاله، وربما يُحدث الكتاب تساؤلات أكثر عند آخرين، خاصة حينما يعرفوا أنهم مظلومين دون أن يدونوا مظلوميتاهم كلٌّ على حدة، ويجب ألا تفوتهم لحظة الحزن والفراق بدون تدوين.
هذه مأساة وتغريبة يمانية جديدة تتبع تغريبات كثر ابتدأت في أول التاريخ بحثاً عن الماء والمرعى، وتلتها هجرات السيطرة والتجارة والتي امتدت إلى كل أرجاء الوطن العربي وشمال وشرق أفريقيا، وبعد انتهاء الدولة الحميرية حدثت هجرات أخرى في العهد الإسلامي، وفي عهد طوائف الغزاة بعد عام 900 ميلادية حدثت هجرات خفيفة تلتها عودة هجرات معاكسة نحو اليمن في عهد الاستقرار الذي صاحب الدولتين الأيوبية والرسولية، وفي القرن الخامس عشر بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح وانحسار التجارة في اليمن حدث نزوح وهجرة جديدة نحو الهند وجنوب شرق آسيا، ومنذ الاحتلال الإنجليزي والذي تلته سلطة الإمامة ظلت الهجرة مفتوحة نحو الشرق عبر مياة المحيط الهندي، وهجرات متكررة اجتازت المضيق لتصل إلى ضفته الثانية في القرن الأفريقي، وبعد الثورة اليمنية في 1962 استمرت الهجرة لكنها كانت نحو أراضي الجزيرة العربية موطن اليمنيين الأكبر، والتي قسمتها اتفاقية سايكس بيكو في 1916م، كانت هجرة اختيارية بسبب اكتشافات النفط هناك، ولم يحدث من ذلك الحين أن نزح وهاجر وتشرد اليمنيون كما حصل لهم بعد عودة الإمامة تحت مسمى الحوثيين في 2014م وما تلاها من أعوام إلى اليوم، وازدادت هذه المأساة ضراوة بعد تحريك بريطانيا لعناصرها القديمة تحت مسميات جديدة بدعم صوري من إمارات ساحل القراصنة.
اليوم وصلتني رسالة محبة من صديقي حميد يستشيرني في نص من أروع ما يكون، فكتبت له رسالة اضمنها هذا النص:
"نفسي أسألك لمن كل هذا الحنين والرسائل هنا وفي حنينك المبعثر؟ لا أُخفيك وأنا اتصفح ما لملمته من حنينك المبعثر في دفتي كتاب، عن هذه الأم، هذه الحبيبة، هذا الوطن، ووجدت الرسائل منها ما هو موجه للأم البيولوجية، ومنها ما هو موجه للوطن الأم، ومنها ما هو موجه للحبيبة الأم، تفرقت الأمهات واجتمعن أيضاً في (حنينك اللامبعثر) ربما أنت الوحيد ياصديقي العشريني الذي استطعت أن (تلمّ حنينك) أما البقية فحنينهم مازال مبعثر. وما هذه الرسالة المكثفة إلا تبعاً لذلك الحنين الذي يسكن وجدانك، لو كتبت مائة كتاب بعد كتابك حنين مبعثر ستظل تدور حول كتابك المحوري، وهنا يكمن الإبداع يا صديقي العزيز. اعذرني لم أكتب عن الحنين منذ قرأت كتابك لأني مسكون به، ولأنك هيجت أشجاني بكتابك، وأدركتُ كم أنا عنيد ومتعجرف إذ هربت من كتابة الحنين إلى كتابة ما لا أحبه، ولست إلا كمن أُجبر على المضي في اتجاه واحد. مازال الحنين في صباه يا صديقي اكتب لها وعنها، لا توفر، ولا تستكثر ما كُتب لها من حنين، انتقل معها من حنين إلى آخر، لا تتركها بدون حنين، حاصرها بك وبحنينك. وأنا اقرأ حنين مبعثر ، وجدت الفضول في رسالته الخالدة (يا من رحلت إلى بعيد) بكل تفاصيلها في ثنايا حنينك يا حميد. فتحت الأغنية بصوت أيوب ودندنتُ معك من صنعاء إلى القاهرة والخرطوم".